الجمعة 26 آب (أغسطس) 2016

أولوياتهم وأولوياتنا

الجمعة 26 آب (أغسطس) 2016 par محمد الصياد

تستمع إلى محطات الإذاعة وتشاهد محطات البث الفضائي الإخبارية وتتصفح الإعلام المقروء في عالمنا العربي، ولكن في وسائط الميديا الغربية والدول الآسيوية الصاعدة.. وتداوم على تكرار خوض هذه التجربة في مجال الإعلام المقارن - إن جاز التعبير - لتكتشف البون الشاسع بين تغطياتنا لما يدور في العالم من أحداث وبين تغطياتهم لها.
سوف تجد أن تغطيات النشرات الإخبارية لمحطات البث الإذاعي والتلفزيوني المحلية، وحتى الأخرى المعربة، وتغطيات بقية أجهزة الميديا العربية، مهما تعددت وتفرعت، تتمحور أساساً حول قضية واحدة تقريباً، هي قضية الصراع الدائر في المنطقة بين فرقائه المتوزعين على خريطة معروفة من التقسيمات العصبية المشدودة لكل وتر من أوتارها الناطقة بلغة جهوية مختلفة عن الأخرى. هنا نجد وكأن وسائطنا الإعلامية صارت مهووسة بمتابعة التفاصيل اليومية لهذا الصراع المندلع على نطاقه الواسع منذ زهاء خمس سنوات. وإن تغطيات هذه الوسائط تهتم بجانب واحد مرجح وتركز عليه وهو التقاذف والتطويع القسري لمخرجات الأخبار، بإسقاط تفسيراتها وتأويلاتها الرغائبية على الوجهة التي تتخذها الأحداث.
والواقع أن أجواء التوتر المحمومة والمتصاعدة تفرض نفسها على نوعية المنتَج الإعلامي، وتضعه في مرتبة غير منصفة حين المقارنة مع نظرائه أجهزة الميديا في بقية أنحاء العالم، ففي مثل هذه الأجواء التي يصطخب فيها صراع الإرادات المستحضِرة لمرجعياتها العصبية المختلفة، لن يكون للنقد البناء مكان طالما استمر اضطرام النيران داخل البيت واستمر الفرز والاستقطاب على أشده بين قاطنيه.
من الطبيعي أن تحتل القضايا المحلية والوطنية مساحة واسعة من التغطيات الإعلامية لمختلف أجهزة الميديا في بلدان العالم قاطبة، يستوي في ذلك الإعلام المرئي والمسموع والمقروء في الدول المتقدمة ونظيره في البلدان النامية، وبضمنها بلدان العالم العربي، لكن المداوم على متابعة الاثنين سوف يجد البون الشاسع والفاصل بينهما وما يميز الإعلام الغربي عن الإعلام العربي.
فلسوف يجد هنا حجباً صريحاً للمعلومة أو لمعظمها، فيما سيجد هناك حجباً ذكياً احترافياً لبعض المعلومة، إنما مع الالتزام العام بالموضوعية والمهنية والالتزام الجزئي بمبدأ الإفصاح من خلال السماح «بإخلاء سبيل» جزء مهم مما وفرته الوكالات والمراسلون من معلومات. سنجد أن مما يميز أولئك عنا أن كل حدث من الأحداث التي تغطيها وسائطهم الإعلامية وطريقة ومساحة تناولها له هو حدث له تأثير يصغر ويكبر على مسار علاقات القوى الدولية، بينما الأحداث التي نتناولها تكاد تستحوذ على كامل المساحة المفردة لمناكفاتنا وكيدنا السياسي المبني على أسس العصبيات التي تٌسَيِّر العالم العربي اليوم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، سنجد أنه في الوقت الذي كان الإعلام الغربي يكثف فيه حملته على مدار الساعة لدعم الهجمة المنظمة لإطاحة الرئيسة البرازيلية المنتخبة شعبياً ديلما روسيف في البرازيل.. ثم، وبعد إطاحتها يقوم بنقل ثقل تغطياته صوب الهدف الثاني فنزويلا التي أصبحت إطاحة رئيسها نيكولاس مادورو قاب قوسين أو أدنى، فإن الإعلام العربي كان يتنقل وقتئذ من مقلب إلى آخر داخل دائرة الاصطفافات «الجديدة» للصراع الاجتماعي المغلف بواجهات سياسية حداثية في الظاهر، وعتيقة مُستحضرة من قيعان التاريخ في الجوهر.
صحيح أن هناك أيضاً تركيزاً على الشؤون المحلية، ولكن وسائطهم الإعلامية تغطي أيضاً وبشكل مقبول واحترافي أبرز التطورات العالمية، خصوصاً منها ذات الأثر الحاضر والمستقبلي، المتوسط والبعيد، على موازين القوى السياسية والاقتصادية العالمية. الإعلام الغربي هو أيضاً إعلام منحاز بشكل صريح وواضح؛ لأنه يعكس بالدرجة الأساسية مصالح النظام ومصالح كتلته الغربية الكبرى والمتأسسة في إطار مؤسسات ناظمة، حيث إن الحياد في الخطاب الإعلامي هو ضرب من الخيال، ولكنه بالمقابل يحرص على احترام المهنية والموضوعية والتمكين من المعلوماتية، وهو ما يجسده في حرصه على عرض وجهة النظر الأخرى المقابلة، وإن حدث ذلك بصورة غير متوازنة. وترتيباً، سوف يجد المتابع للوسائط الإعلامية الغربية استفادة معتبرة من متابعته لما تقدمه من وجبات إعلامية ومعرفية مختلفة، بينما يجد للأسف الشديد استفادة أقل من متابعته «للمنتج النهائي» للإعلام العربي. الأمر لا يتعلق بالفارق في الإمكانيات والطاقات، بقدر تعلقه بنهجين تفكيريين وإداريين مختلفين، وبثقافتين إعلاميتين مختلفتين.
ماذا يعني هذا؟.. هل يعني أن أولويات أجنداتهم تختلف عن أولويات أجنداتنا؟ ربما، وهو الأرجح على أية حال، على أساس أنه تعبير تجسيدي عن حقيقة تغاير اهتماماتنا عن اهتماماتهم، واختلاف تقديرنا لأهمية وقيمة ووزن الأحداث العالمية الجارية يومياً على امتداد الساحة الدولية. وفي التقدير العام، فإن هذا المعطى، «التفكيري الثقافي» سوف يستمر بعض الوقت ما استمرت عملية الاستقطاب العصابي بزخمها وحدتها الراهنين. بهذا المعنى فإنه يمكن اعتبار المرحلة الفكرية الراهنة التي تتصدر مشهدها أجهزة الميديا، بأنها مرحلة تشويش وبلبلة، وهو اتجاه مضاد لاتجاه التنوير الذي ساد الساحة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر، وشطراً لا بأس به من القرن العشرين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2181795

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع محمد الصيّاد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2181795 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40