الجمعة 26 آب (أغسطس) 2016

“عماد” وعلي رضا أصغري

الجمعة 26 آب (أغسطس) 2016 par د.احمد جميل عزم

لم أتوقع عندما نشرت قبل أسبوعين مقال “جانيت وعماد وعرفات” (12/ 8/ 2016)، حجم أو نوع التفاعل مع الموضوع. فعلاوة على القراءة الكثيفة للمقال، جاءت تعليقات شفاهية وإلكترونية متنوعة، ومتناقضة بحدة. وعلى سبيل المثال، كان هناك تفاعل من أشخاص عدة من تونس، في إشارة لعلاقة جانيت ستيفينس -التي قتلت في تفجير السفارة الأميركية في بيروت العام 1983 - بتونس. وقد أعود لهذه العلاقة في مقال لاحق. وكان هناك تعاطف كبير مع جانيت، رغم محدودية ما ذُكر عنها، ولكن ربما كان كافياً لملامسة وجدان الكثيرين.
الشق الثاني من التفاعل كان بشأن شخصية عماد مغنية؛ فهناك من تعاطف معه، ومن استغرب واستهجن المقال وغضب، لأني برأيهم وضعت مغنية مقترناً بياسر عرفات وجانيت، في ذات المسار الإنساني والنضالي. وفي الواقع أني تعمدتُ أثناء كتابة المقال، أن يكون دوري سرد الأحداث، وربطها ببعضها، تاركاً الاستنتاجات للقارئ، من دون إغفال فرضية دور مغنية في عمليات إرهابية، منها استهداف طائرة كويتية وغيرها.
كان في المقال تلميحٌ بأنّ خروج المقاومة من بيروت، أدى إلى تحولات غالية الثمن، منها مقتل أمثال جانيت، وانتقال أمثال مغنية لمسار جديد مختلف. واقتربتُ في آخر جملة في المقال، من التصريح أنّ جانيت، والمقاومة، وصبرا وشاتيلا، وحتى عماد الذي بدأ مع “فتح”، ثم مضى في مسار آخر، هم ضحايا المشروع الصهيوني، بطرق مختلفة، ومتناقضة.
كنت أشير لسوداوية عالم السياسة، التي تجعل الصديقين “شتيتين” متضادين، بقصدٍ حيناً، ومن دون رغبة حيناً ثانياً. ولعلي أكمل اليوم جزءا من المشهد، أو استعراض المزاعم والفرضيات حول المشهد.
في كتاب “الجاسوس الجيد” (The Good Spy)، لكاتبه كاي بيرد، والذي كان أحد مصادر مقالي سالف الذكر، يأتي أنّ “دور مغنية في تفجير السفارة الأميركية العام 1983 أكيد”، لكن حجم الدور وماهيته ليسا أكيدين، خصوصا أنّ “العملية من ناحية تقنية معقدة جداً بالنسبة لشاب عمره عشرون عاماً (آنذاك)”، وأنّ مغنية أخبر شخصية لبنانية، قريبة من الثورة الفلسطينية، هو مصطفى زين، بأنّه لا دور له، وأنّ هذه هي “عملية (علي رضا) أصغري”؛ ضابط الحرس الثوري الإيراني، الذي التقى عماد في بعلبك، العام 1982، وجنّده، لتبدأ شراكة كبيرة بين الطرفين، من نتائجها تأسيس حزب الله، وخطف رهائن، وعمليات مختلفة. وبقي أصغري طويلا في لبنان وسورية، حتى التسعينيات، وترقى ليصبح نائباً لوزير الدفاع الإيراني بين العامين 1997-2002، ثم لينتقل لاحقا للعمل في شركة كهرباء ذات دور أساسي في المشروع النووي الإيراني. بعد ذلك اعتقل لمرحلة وجيزة (لسبب غير واضح)، ليعمل بعد الإفراج عنه في تجارة زيت الزيتون، وأصبح أقرب للمعارضة في إيران، خصوصاً بعد وصول خصمه القديم، في الحرس الثوري، محمود أحمدي نجاد، للرئاسة.
وفي العام 2007، اختفت آثار أصغري في تركيا. ومنذ ذلك الحين تَصدُر اتهامات إيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل بخطفه، وأنّه قابع في سجن إسرائيلي، وربما مات فيه. لكن بحسب الكتاب وتقارير أخرى، انشق أصغري وذهب عبر عملية معقدة، من دمشق إلى تركيا ثم ألمانيا، فالولايات المتحدة، وقدّم معلومات خطيرة عن المشروع النووي الإيراني، وعن حزب الله، ومعلومات أدت لاغتيال مغنية (تلميذه أو جنديه السابق وصاحب السيرة الغامضة حتى الآن).
كم هي القصص التي تشير لأشخاص، وخصوصاً سياسيين، يأخذون شباناً لطريق يحدد حياتهم وطريقة مماتهم، ثم ينقلبون لوجهة أخرى ويتخلون عنهم؟
لو صدقت القصة، فهي مؤشر آخر على عبثية وغرائبية عالم السياسة. والأنكى وجود مزاعم أكثر غرابة. ففي العدد المزدوج 262/ 263، لمجلة شؤون فلسطينية، العام الماضي، مقال للكاتب محمود الناطور (أبو الطيب)، القائد السابق لـ“القوة 17”؛ إحدى تشكيلات حركة “فتح” والتي بدأ مغنية حياته بها. ويذكر في المقال أنّ من فجّر السفارة هم الإسرائيليون، انتقاماً من بوب آميز، مسؤول المخابرات الأميركية (CIA) في الشرق الأوسط، وغيره من ضباط مخابرات، قُتلوا هناك. إذ كان آميز يتبنى فتح قناة حوار مع منظمة التحرير، ويبذل جهوداً لإقناع المسؤولين الأميركيين بتبني تأسيس دولة فلسطينية.
هذه روايات يتبناها سياسيون وكتاب جادون، تعبر -أولا- عن غرائبية وعبثية السياسة حيناً، وبالتالي حياة المتورطين فيها. وثانياً، محدودية وتضارب ما بين أيدينا لنستطيع سرد تاريخ حياتنا القريبة.

- جانيت وعماد وعرفات

التقت جانيت ستيفينس، ابنة الحادية والثلاثين، ياسر عرفات في أحد خنادقه، يوم 8/ 8/ 1982، أثناء حصار بيروت، وقالت له: “أبو عمار، لا تخرج.. خُض المقاومة على غرار (معركة) ستالينغراد”. أخبَرَته عن فزع الأمهات والأطفال بشأن خروج الرجال والفدائيين. كانت جزعة وعرفات يدرك مغزى الأمر. وعندما انهارت بالبكاء وهي تغادر، وأحاطها بذراعه محاولا تهدئتها، كان أحد الحراس، عمره واحد وعشرون عاماً، واسمه عماد مغنية، يراقب المشهد.
لشدة تعاطفها وتدخّلها في حياة المخيمات، أحبها الناس. ولكثرة صخبها، سمّاها البعض “فتاة الطبل”. وشكّ الناس فيها، وأنها مخابرات أميركية أو موساد. وهي أميركية، تعمل صحفية “بالقطعة” لمن يوافق أن ينشر لها من صحف العالم، وتعد أطروحة دكتوراه في جامعة بنسلفانيا الأميركية. كانت تتنقل بين أزقة صبرا وشاتيلا، ومستشفيات غزة وعكا، في المخيمات ذاتها. ويوم حدثت المجزرة، رغم الضمانات التي أخذها عرفات من الأميركيين، كتبت مقالا بعنوان “لبنان الذبح”.
وفي رسالة شخصية كتبتها إلى فرانكلين لامب (الذي سأذكر علاقتها به بعد قليل)، قالت: “رأيت نساء في بيوتهن، تنانيرهن مرفوعة حتى الخصر، وأرجلهن متباعدة، وعشرات الشباب أُطلقت عليهم النار بعد أن صُفّوا في خط مستقيم ووجوههم للجدار. رأيت أطفالا شُقت حناجرهم، وامرأة حاملا بُقر بطنها، وعيونها ما تزال مفتوحة مليئة بالرعب الأسود الصامت، وعدد كبير من الرضع طُعنوا أو مزّقوا، وأُلقي بهم للقمامة”.
ولد عماد مغنية العام 1962، والغالب أنه تربى في الضاحية الجنوبية ببيروت؛ المنطقة الشيعية الفقيرة، حينها. وفي سن 14 بدأت علاقته الفعلية مع حركة “فتح”. ويذكر المشرفون على معسكر للأشبال شارك فيه، أنّ غالبية المشاركين كانوا يتحرقون لإنهاء نحو ثلاثة أسابيع من التدريب، لأنه في ختامه جزء مثير، هو إطلاق النار من البنادق. لكن عماد كان مهتما جداً بتفاصيل المعسكر الأخرى، حول التكتيك والعمل العام. وبعد ذلك، وقبيل اغتيال قائدها علي حسن سلامة، العام 1979، انضم مغنية لـ“القوة 17”، الجهاز الأمني في “فتح”. وكان سلامة مشهورا بلقب الأمير الأحمر، معروفاً بحبه للحياة المترفة واللهو، بجانب الثورة.
خصصت جانيت ما بقي من حياتها لتوثيق المجزرة، وللبحث عن سبيل لمحاكمة القائمين عليها، وأولهم وزير الحرب الصهيوني حينها آرئيل شارون، كمجرم حرب.
بقي عماد في بلده لبنان. وبجانب ذكرى اغتيال سلامة، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وصمود بيروت، كان غياب الإمام موسى الصدر واختفاؤه في ليبيا، مضافا لذلك الثورة الإيرانية العام 1979، مكونات أساسية بجانب الفقر، والذكاء، والفطنة، في عقله وشخصيته. وبدأ يبحث عن إطار للعمل لمرحلة ما بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. وعلى الأغلب كان جزءا أساسياً من تكوين ما سمي “أمل الإسلامية” التي هي انشقاق عن حركة “أمل”، وربما مما سمي حينها أيضاً تنظيم “الجهاد الإسلامي”، وكل هذا صار لاحقا جزءا من حزب الله. ومما وُثّق أن عماد حاول حينها الحصول على متفجرات من عضو في حركة “فتح”، قائلا إنّ لديه من هو مستعد لتفجير نفسه في الإسرائيليين. وضحك عضو “فتح”، مستغربا وجود من يمكن أن يفعل ذلك، ولم تكن موجة العمليات الاستشهادية قد بدأت. لكن لاحقاً سيصبح عماد قائدا غامضاً في حزب الله، ولن يرتبط اسمه بعشرات عمليات التفجير ضد الإسرائيليين والأميركيين فقط، بل بالقيادة العسكرية للحزب، وبعمليات ضد أهداف ودول عربية، منها طائرة الخطوط الجوية الكويتية في ربيع 1988، وسيعجز الأميركيون والإسرائيليون عن النيل منه، حتى اغتياله في دمشق العام 2008.
في 18 نيسان (إبريل) 1983، كانت جانيت في السفارة الأميركية ببيروت، وكان لديها موقف معلن هو ضرورة محاكمة شارون كمجرم حرب. ويعتقد أنها كانت هناك في الكافتيريا، للقاء مسؤول إغاثة اميركي لدفعه لتقديم المساعدات لمخيمات اللاجئين، عندما انفجرت سيارة بنحو طن متفجرات، وليهبط فوقها نحو طن من الإسمنت والركام. ويكتب لامب العام 2007، أنها كانت حاملا بابنه، وأنّ الطفل إن عاش، لكان بوسامة أمه، كالأمير، واسمه “كليد”، وعمره 24 عاما.
في سن الرابعة والعشرين، قتل الإسرائيليون جهاد، نجل عماد مغنية، في غارة في القنيطرة في سورية، العام الماضي.
عماد وجانيت وعرفات ونساء وأطفال المخيم وكليد وجهاد في مواجهة شارون وما يمثّل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 98 / 2181115

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2181115 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40