الجمعة 26 شباط (فبراير) 2016

العروبي العريق

الجمعة 26 شباط (فبراير) 2016 par د. فايز رشيد

رحل الأستاذ بعد أن شغل الناس بما كتب. كثيرون اتفقوا معه، وعديدون اختلفوا وانتقدوه. نال من الإعجاب والشهرة والنفوذ، ما لم ينله صحفي عربي آخر على مدى عقود. كان قريباً من عبد الناصر واعتقله السادات. ابتدأ حياته العملية مراسلاً حربياً في الحرب العالمية الثانية ثم على الجبهة الفلسطينية عام 1948، حيث تعرف إلى عبد الناصر، الذي قاد ثورة يوليو عام 1952، والتي غيّرت وجه مصر والعالم العربي وإلى حد ما المنطقة بأسرها.
وصل هيكل إلى العالمية من حيث الكم الذي قابله من زعماء العالم. عاصر كل منعطفات مصر وأحداث المنطقة لعقود. وثّق تجاربه في كتب كثيرة تتجاوز الأربعين كتاباً. وفي مقالاته الشهيرة «بصراحة» التي كانت تُنشر بالتزامن في عدة صحف عربية وعالمية، وفي لقاءاته التلفزيونية التي هي أكثر من أن تعد وتحصى. من آخر المقابلات مع محمد حسنين هيكل، سلسلة الحلقات بعنوان «مصر أين وإلى أين؟»، التي أجرتها معه الإعلامية لميس الحديدي في فضائية CBCالمصرية. كل إطلالة تلفزيونية لهيكل كانت تحمل في جوانبها هموم مصر ودورها العربي، وتطلعاته لاسترداد هذا الدور القيادي الذي كان لها. رأى هيكل أن لمصر دوراً لم تعد تقوم به، يتلخص في أن تكون موجودة في طليعة البلدان العربية. هيكل أكد أهمية سوريا عربياً وواجب مصر في دعمها. وبشكل عام أراد هيكل أن تتوجه مصر إلى الشعب السوري مباشرة. هيكل تألم في حياته لأن العالم لم يعد يرى في مصر، مركزاً لمقاومة الاستعمار، ودعم حركات تحرر الشعوب (مثل أيام عبد الناصر) بل ينظر إلى العرب باعتبارهم، مجموعة بشرية فقط.

ذكر هيكل على لسان رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق شارون: أن الأمن الحقيقي ل“إسرائيل” تجاه الخطر العربي لا يكون باستعمال القوة فقط، فهي تُقدم حلولاً مؤقتة، أما الأمن الحقيقي ل «إسرائيل» فلا يكون إلا بوجود تناقضات تصل إلى حد العنف بين الدول العربية، ما يؤدي إلى التخلي عن العداء ل«إسرائيل» كأولوية. أي أن الواقع العربي الراهن نموذجي بالنسبة لأمن «إسرائيل» من دون أن يكون معنى ذلك بالضرورة، أن «إسرائيل» أسهمت في إيصال العرب إلى الواقع البائس. في النظر إلى المستقبل القريب (2016) طالب هيكل القيادة المصرية بتقديم رؤية للمستقبل العربي وخريطة أمل للشعب المصري.

بغض النظر عن اتفاق البعض مع وجهات نظر هيكل أو لا، لكنه تميز دوماً بتقديم وجهة نظر موضوعية فيما يتعلق بالوضعين المصري والعربي وفي المقدمة منه الفلسطيني. نعم، جيلنا تربى على دور مصر العربي في عهد عبد الناصر. مصر، بؤرة للنضال الوطني التحرري على صعيد آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. مصر، التي لم تستطع لا أمريكا ولا الاتحاد السوفييتي وروسيا (فيما بعد) ولا أوروبا تجاهل دورها. مصر محج الثوريين على صعيد العالم. مصر، التي تآمرت عليها بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل» في عدوان عام 1956 وأفشلت العدوان. مصر الشقيقة الكبرى للدول العربية وتحرر بعضها. مصر عدم الانحياز. مصر مصدر التحولات المفصلية في المنطقة: تأميم القناة، توزيع الأراضي، التصنيع العسكري وبناء السد العالي، مصر الحضارة والتاريخ، وأخيراً لا آخراً مصر العروبة ومجابهة الكيان الصهيوني.
كان من الطبيعي أن تتآمر أمريكا والغرب والكيان على مصر، وكانت حرب عام 1967. ولعلني أحيل القارىء العربي لكتاب هيكل: الانفجار 1967، ولمذكرات ليندون جونسون، ومؤلف الكاتب الفلسطيني هشام شرابي عن الهدف من عدوان حرب عام 1967 المتمثل في إسقاط عبد الناصر وتجربته، باعتبارهما رأس جسر مرحلة التحرر العربي والإفريقي والآسيوي والأمريكي اللاتيني من نير الاستعمار البغيض.
اعترف ناصر بالهزيمة وتحمل المسؤولية بكل شجاعة واستقال من منصبه. قامت الجماهير العربية في كل أنحاء العالم العربي، وفي مصر تطالبه بالعدول عن الاستقالة. خاض حرب الاستنزاف وكانت المقدمة لحرب 1973 والتي ساهمت فيها المساعدات التسليحية السوفييتية بدور كبير. الحرب التي خاض بها السادات خطته التحريكية، البعيدة كل البعد عن التحرير. رغم هول الهزيمة رفع عبد الناصر شعار: لا صلح، لا اعتراف ولا مفاوضات مع الكيان. كان ذلك في مؤتمر القمة العربي في الخرطوم عام 1968.
هيكل كان قريباً من عبد الناصر، وصولاً إلى حد الالتصاق به طيلة حياته، تماماً كما كان أندريه مالرو من ديغول وبابلو نيرودا من سلفادور الليندي. التصاق الكاتب بالزعيم يضاعف من شهرة الأول، غير أن هيكل كان معروفاً قبل صلاته مع عبد الناصر قبيل ثورة عام 1952 وما تلاها. كان هيكل شاهداً حقيقياً على كل ما قلناه. في مطلع الشباب أواسط الستينات كان جيلنا حريصاً على سماع مقالة محمد حسنين هيكل الأسبوعية (بصراحة) في الأهرام من إذاعة صوت العرب أيام الجمعة من كل أسبوع. في أحدها كتب هيكل أنه الذي اقترح على عبد الناصر اصطحاب المرحوم ياسر عرفات إلى موسكو في إحدى زياراته إليها. كانت تلك بداية العلاقات الفلسطينية السوفييتية.

قبل بضعة أعوام، قاموا بإشعال النيران في فيلا هيكل، وتمكنوا من إحراق المكتبة الملحقة بها. ووفقاً لمصادر أمنية: تبين من المعاينة حرق 18 ألف مخطوطة ووثيقة وبعض الكتب النادرة. لقد تم نهب أغلب محتويات المكتبة من صور ووثائق متعلقة بالفترة الناصرية، ومستندات تخص أدق تفاصيل حربي 56 و67 حسبما ذكرت الصحافة المصرية حينها. العملية كانت عملية بربرية بامتياز، تتشابه مع ما اقترفه جيش هولاكو برمي الكتب النادرة في نهر دجلة، حتى أصبحت مياهه سوداء من الحبر، وذلك سنة 1358م. الذين قاموا بحرق مكتبة هيكل بعد نهبها، وسرقة العديد من كتبها ووثائقها، هم مجرمون، فما أحرق وما جرى إتلافه، وما سُرِق لا يمكن تعويضه بثمن. ما أسهل هدم مبنى أمام إحراق مكتبة ولو صغيرة، وبخاصة إذ احتوت كتباً نادرة. المبنى يمكن إعادة بنائه وبمواصفات أجمل وأحدث، أما المكتبة المحروقة، فلا يمكن تعويضها.
هيكل إنسان كبير ومتواضع. أذكر أنني في عام 1998 وعندما خططت لإصدار كتابي بعنوان «خمسون عاماً على النكبة»، وفيه وجهت خمسة أسئلة، لحوالي خمسين زعيماً من الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية والكفاءات السياسية والفكرية والحزبية العربية، وفي لقاء مع الصديق المرحوم حافظ طوقان رئيس بلدية نابلس الأسبق، الوطني الفلسطيني والقومي العربي بامتياز والمبعد من وطننا، أنه أشار عليّ باستفتاء هيكل، فهو صديق له، رغم مهابتي من الفكرة وخشيتي، وكنت لا أزال مبتدئاً في عالم الكتابة، نفذت اقتراحه، وأرسلت للكبير «فاكس» بنفس النص الموجه إلى غيره. فوجئت بعد يومين برد مطبوع منه، يخبرني عن استحسانه للفكرة مع اعتذاره عن المشاركة، لأن أسئلتي تحتاج إلى ردود لا تكفيها 4 صفحات (كما حددتُ في الأسئلة، حجم الإجابات)، مبدياً رغبته في رؤية الكتاب مطبوعاً. أدركت حينها خطأي الجسيم في تحديد حجم الإجابة للجميع، وبخاصة لقامة كبيرة مثل الموسوعي هيكل، أرسلت له الكتاب بعد طباعته وجاءني شكره الدمث، وتوالت كتبي... ورسائل شكره.
هيكل سيبقى خالداً في أمته، فالعظماء لا يموتون، وهيكل واحد منهم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2177282

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فايز رشيد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2177282 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40