الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016

الانتفاضة والنظام العربي الراهن

الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016 par منير شفيق

العلاقة التي قامت بين النضال الفلسطيني والنظام العربي عموما بالدول العربية، واحدة واحدة، اتسّمت بارتباط عضوي كان الوجه المتحكِّم في مسارها هو النظام العربي، كما محصلة المعادلة في ما بين الدول العربية. أما على مستوى علاقة كل دولة عربية بالنضال الفلسطيني، فقد كان متفاوتا من دولة إلى أخرى سلبا وإيجابا. ولطالما تأثر صراع المحاور العربية أو في الصراع بين هذه الدولة وتلك. وكانت السمة السائدة في مسار العلاقات هنا هي الموقف الفلسطيني الأضعف في أغلب الحالات، إن لم يكن فيها كلها.
هاتان السمتان سادتا العلاقة منذ بداية النضال الفلسطيني الذي نشأ مع بداية تنفيذ المشروع الصهيوني، أو قل منذ عشرينيات القرن الماضي، ربما إلى لحظة انهيار محور الاعتدال العربي وذلك بانهيار نظامَيْ حسني مبارك (مصر) وزين العابدين بن علي (تونس) في مطلع العام 2011. ولكنهما (السمتان) بدأتا بالتراجع مع ما ساء من أوضاع عربية بعد 2011 وصولا إلى الوضع الراهن في غير مصلحة الوضع العربي. ودلّ على ذلك حرب 2014 في قطاع غزة وانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة الراهنة.
فدور الأنظمة العربية، وفي مقدّمها مصر، في الأوضاع العربية الراهنة، لم يعد بالقدرة نفسها من ناحية التأثير في النضال الفلسطيني. وذلك يرجع لما حدث من تغييرات نوعية في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية، عما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى 2011. ويكفي أن يُلحظ ما حدث للدولة القطرية من انقسامات داخلية وصراعات وتصدّعات فأشغلها في ذاتها. وهو ما اعتبره الكثيرون تراجعا لمكانة فلسطين وقضيتها باعتبارها قضية مركزية.
صحيح أن الأوضاع السائدة الآن في البلاد العربية عموما غيّبت على المستوى الرسمي العربي ذلك الاهتمام السياسي بقضية فلسطين، ليحلّ مكانه الغرق في الصراعات المحلية القطرية والعربية –العربية والعربية –الإسلامية. ولكن من ناحية ثانية، أضعفت كثيرا من قوّة النظام العربي في التحكم بالنضال الفلسطيني والتأثير في مجرياته ومساره، عكس ما كان عليه الحال، في العهود الماضية.
لقد حرصت الدول العربية في الماضي أن تبقى متحكمة، ولو بصورة غير مباشرة، في السقف الذي يتحرك فيه النضال الفلسطيني، بما في ذلك حين كانت تضغط لوقفه كما حدث في إيقاف ثورة 1938 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ (نداء الدول العربية مجتمعة لوقف الثورة “بناء لوعود الصديقة بريطانيا”، حدث تاريخي مشهور). ثم التحكم بمستوى ما يمكن أن يدخل من سلاح إلى فلسطين. ووصل الأمر في العام 1948 إلى دخول الجيوش العربية ثم عقد الهدنة. ثم إنهاء النضال الفلسطيني من 1949 إلى 1964. فكان القرار الرسمي العربي طوال هذه الفترة عدم السماح بأي تنظيم أو نضال فلسطيني ضدّ العدو الصهيوني. وهو ما كان.
وعندما تقرّر أن تُؤسَّس منظمة التحرير الفلسطينية، ويُشكّل جيش التحرير الفلسطيني في العام 1964 كان قرارا عربياً بزعامة مصر للردّ، ولو المعنوي والسياسي، على القرار الصهيوني بتحويل مجاري نهر الأردن، وذلك بعد أن تبيّن عدم إمكان منع ذلك، وإحباطه.
وأما المنظمات السريّة التي تشكلت في تلك الفترة، أو قبيلها، فكانت ممنوعة ولا سيما ممارستها للكفاح المسلح. وقد بقيت محاصرة ومهمّشة بالرغم من احتضان سوريا والجزائر لحركة فتح. ولم تتحوّل إلى فصائل مقاومة معترفا بها عربيا، إلاّ بعد الهزيمة العسكرية في 1967، واحتلال سيناء وقطاع غزة والقدس والضفة الغربية والجولان. ففي هذه الظروف أصبحت م.ت.ف بمنزلة جبهة فصائل المقاومة بقيادة حركة فتح. وكان هذا كله قرارا عربيا – مصريا.
فالنظام العربي بعد 1967، أو بعد إعادة تشكُّل م.ت.ف 1968، هو الذي فتح الآفاق لاندلاع الثورة الفلسطينية وتعاظم دورها، بما في ذلك تسهيل وجودها العسكري في كل من الأردن 1967-1968، ولبنان 1969-1982. ولكن بعد الخروج من لبنان أوصل القرار العربي م.ت.ف إلى مفاوضات مدريد 1991. وهو الذي اتخذ قرارَيْ “الممثل الشرعي والوحيد” والانتقال إلى برنامج النقاط العشر 1974. ثم قرار إقامة دولة فلسطينية في حدود ما قبل حرب حزيران 1967، “هدفا” للنضال الفلسطيني.
وصحيح أن علاقة النظام العربي كما ترجمته القمم العربية، وكذلك علاقات الدول العربية منفردة، بالنضال الفلسطيني، أكثر تعقيدا من أن يُبسّط بما قدّم أعلاه من أمثلة على هذه العلاقة، ولا سيما من ناحية الدور الفلسطيني ومدى قدرته على الفعل ضمن تلك العلاقات، ولكن بصورة عامة فإن ما تقدّم يلقي الضوء على مدى تأثُّر النضال الفلسطيني مدا وجزرا، وانطلاقا وانكفاء، وتحديدا للسقف أو الخروج عليه، في القرار العربي والسياسات العربية على المستويين الجماعي والفردي. وقد كان ثمة حاضن عربي (دولة) في حالات الخروج.
والمراد هنا، انطلاقا من سمات هذه العلاقة في تاريخ النضال الفلسطيني، الوصول إلى إعادة قراءة هذه العلاقة على ضوء المتغيّرات الكبيرة التي حدثت على مستوى التدخل الخارجي والعربي في الوضع الفلسطيني من جهة، كما على مستوى وضع الكيان الصهيوني داخل المعادلة الجديدة، وما يكون قد ناله من عوامل الضعف والتأزيم.
وبكلمة إن الوضع العربي الراهن من زاوية علاقته بالقضية الفلسطينية لم يعد قادرا على التدخل في التأثير في النضال الفلسطيني كما كان في السابق، وإن كان هذا التدخل لا يمكن أن يتوقف بسبب طبيعة العلاقة بين فلسطين ووجود الكيان الصهيوني والأمة (الشعوب العربية) والأنظمة العربية. ولكن هذه العلاقة خضعت في تجليّاتها السابقة وتخضع الآن وفي المستقبل لحالة موازين القوى، التي تقرّر مدى القدرة على التدخل، أو الضعف والعجز عن التدخل عربيا.
فما دام الوضع العربي قد انشغل بذاته وداخله وصراعاته إلى ما نشهده من مستوى ما بين 2011-2016، وما دام وضع الدولة العربية أصبح أضعف بكثير عما كان حالها في السابق، حتى، في مراحل نشأتها الأولى، فإن انعكاس ذلك على النضال الفلسطيني يتسّم بعدم القدرة والتحكم قياسا بما كان عليه في السابق. أي نحن إزاء تغيير ملحوظ تتوجّب ملاحظته.
أما الجانب الآخر الذي يجب أن يُلاحَظ كمُتَغيّر جوهري، لا يقِّل أهمية، إنما هو ضعف الكيان الصهيوني عما كان عليه من قبل. وذلك من ناحية ضعف حلفائه وحماته الأساسيين (أمريكا وأوروبا) وانعكاس ذلك عليه. بل وارتباك علاقته بهؤلاء الحلفاء من جهة، ثم فقدانه لما كان يتمتع به من دعم الرأي العام العالمي من جهة ثانية. ثم ضعف قيادته الحالية من ناحية قدراتها وسماتها قياسا بالقيادات الصهيونية السابقة (أصبحت أكثر عزلة وأكثر تخبّطا وارتكابا للأخطاء) من جهة ثالثة. ثم (وهذا في مرتبة أولى من الأهمية) تعب الجيش وهزيمته في أربع حروب: في 2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة.
إن هذه التغيّرات في الكيان الصهيوني تجعل إمكانات المواجهة بين الشعب الفلسطيني والعدو الصهيوني تحمل فرصا هائلة لتحقيق انتصار مدوّ. أي فرض الانسحاب من القدس والضفة الغربية وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة.
فإذا كان مجرّد شنّ نضال فلسطيني، أو مجرّد صمود في وجه هجمة صهيونية على ذلك النضال، في المراحل السابقة لـ 2011، كان يحتاج إلى الدعم العربي، والموقف العربي بما كان يتناسب مع الحاجة العربية وموازين القوى، فإن الوضع الراهن يسمح للانتفاضة بخوْض معارك كبيرة مع العدو تحقق نصرا، دون حاجة إلى ذلك الدعم والموقف، وهو ما تأكد في حرب 2014 في قطاع غزة، حيث تحقق صمود وتحقق انتصار عسكري كبير من دون دعم عربي، وحتى في ظل حصار غربي وتواطؤ. ولا يغيّر من هذه الحقيقة عدم ترجمته إلى انتصار سياسي (بسبب الموقف المصري المؤثر مباشرة في قطاع غزة.
طبعا لا يجوز أن يفسّر هذا إدارة الظهر الفلسطيني للدعم العربي والإسلامي، وإنما فقط عدم وضع توّفر ذلك الدعم كشرط مسبق لاندلاع الانتفاضة وديمومتها والذهاب بها إلى مداها الأوسع والحاسم. بل بالعكس يجب أن يصار بعد التخلي عن ذلك الشرط والمضيّ في الانتفاضة العمل الحثيث على إحياء الدعم العربي والإسلامي الشعبي أولا كما الرسمي ثانيا، ثم كسب الرأي العام العالمي قدر الإمكان ليساعد في الإسراع بتحقيق النصر إن شاء الله.

- أمهات الشهداء ينتصرن على نتنياهو

في الثاني من العام الجديد، في مقابلة مع وكالة الشرق الأوسط المصرية غيَّر محمود عباس رأيَه في الانتفاضة، وقد سبق أن أسماها “الهبّة الجماهيرية” واعتبرها عفوية لا يستطيع أحد أن يدَّعيها، ووجد العذر للشباب الذين أطلقوها بسبب ما أصيبوا به من يأس بسبب عدم قيام الدولة الفلسطينية وفشل حلّ الدولتين. ففي الثاني من كانون الثاني/ يناير، ربما كان التصريح قبل أن تذيعه قناة فلسطين قد أطلقه قبل يوم أي الأول من كانون الثاني/ يناير في ذكرى الرصاصة الأولى التي أطلقتها فتح، أعلن السيد الرئيس عن استعداده مجددا للتفاوض والتخلص من التوتر الجاري الآن.

وبهذا أصبح ما أسماه محمود عباس “الهبّة الجماهيرية” قد تراجَعَ عنه، وندم عليه ليكشف أفكاره ومشاعره الحقيقية نحوه، وهو وصف “توتر”، الأمر الذي يعني أن الوصف الخافي أسوأ وأمَرّ.
والأنكى أنه لم يربط بين الخلاص من “التوتر” من جهة وفتح باب التفاوض من جهة أخرى، وإنما قال يجب التخلص من هذا التوتر. لأن المطالبة بثمن قد يُفهَم منه أنه مع “التوتر” والعياذ بالله. فرهانه الآن ومع إنهاء التوتر، هو أن تنجح مساعي اللجوء إلى الهيئات الدولية باعتبارها الاستراتيجية التي ستحقق هدف العودة إلى المفاوضات.

يعني، باختصار، أن على كل من يأمل أن يُغيِّر الرئيس رأيه في رفضه للانتفاضة عليه أن يُراجِع نفسه. ويتأكد أنه واهم. وأن على كل من تفاءل، ولو في أدنى مستوى، من أن محمود عباس يقف إلى جانب “الهبّة الجماهيرية” أو أنه يرفع اللوم عن الشباب الذي أطلق الهبّة".

أو بعبارة أخرى أراد محمود عباس بتسمية ما يجري بالتوتر، ومطالبته بإنهاء هذا التوتر فورا، أن يقول لكل من يفترض بأن عليه أن يراجع استراتيجيته الفاشلة في التفاوض والتسوية، كما امتدادها في اللجوء إلى الهيئات الدولية لإنقاذها من الفشل أنك تطلب المحال. بل يقول له، وبلا مداورة “فالج لا تعالج”. فمن يريد الانتفاضة ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة عليه أن يشقّ طريقه بعيدا من محمود عباس.

ولكن المشكلة هنا مرتبطة بقيادة حركة فتح وبقيادات الفصائل التي ارتضت لنفسها أن تعتبر استراتيجية محمود عباس معبِّرة عن الخط السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومجلسها المركزي ولجنتها التنفيذية. وأن المقصود هنا، بصورة خاصة، إلى جانب قيادة فتح، كل من قيادات الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، وبالطبع بقية المشاركين في م.ت.ف.
والسؤال هل سينطبق أيضا على كل الذين يشاركون محمود عباس في قيادة فتح وم.ت.ف قوله “فالج لا تعالج”. إذ سيبقى هنالك للكثيرين موقفان أحدهما يعلن دعمه للانتفاضة وفشل استراتيجية التفاوض وحلّ الدولتين، وثانيهما الاستمرار في تغطية موقف محمود عباس، عمليا.
هذا التناقض آن له أن يُحسَم.

أطلق محمود عباس وصف توتر على ما سبق وأسماه “هبّة جماهيرية” في الوقت الذي كانت عشرات الألوف، وفي الأغلب مئات الألوف في مدينة الخليل وسعير وبيت أمّر وبيت أُوْلى يشيّعون سبعة عشر شهيدا، وهو ما تتهيّأ له القدس والمدن والقرى الأخرى له إذ تنتظر تسلّم جثامين شهدائها الذين تحتجزهم قوات الاحتلال لتشييعهم بمئات الألوف كذلك، وبما يشبه الإجماع الشعبي في القدس والضفة الغربية بإعلان الدعم لشهداء الانتفاضة.

إن تسليم العدو لجثامين سبعة عشر شهيدا لمدينة الخليل وسعير وبيت أمّر وبيت أُوْلى جاء نتيجة الموقف الصُلب الذي تجلّى من خلال اعتصام أمهات الشهداء وإصرارهن على تسلّم الجثامين بلا قيد أو شرط، ليُصار إلى تشييعهم بما يليق بهم من حشود شعبية بعشرات ومئات الألوف. وقد كسَرْنَ إرادة العدو لتسليمهم ليلا ودفنهم فورا.

وبهذا تثبت أمّهات الشهداء وانتصارهن في إجبار العدو على الخضوع لشروطهن بأن موازين القوى السائدة فلسطينيا وعربيا ودوليا تسمح بانتزاع الانتصارات من خلال الانتفاضة والصمود. بل وتثبت الجماهير التي التفت عن بكرة أبيها وراء جثامين الشهداء أنها مصمّمة في ظل موازين القوى السائدة على أن تنتقل بالانتفاضة إلى تحقيق أهدافها في دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، وبلا قيد أو شرط، ليُصار إلى السير قدما نحو تحرير فلسطين كل فلسطين.

إن نزول الجماهير في مدينة الخليل وسعير وبيت أمّر وبيت أُوْلى، نموذجا، وبهذه الكثافة، وبهذا الإصرار وتحت المطر والبرد القارص ليعطي دليلا لا يُخطئ أن بالإمكان إذا ما تحوّلت الانتفاضة إلى انتفاضة شاملة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة بأن تفرض الهزيمة على نتنياهو وجيشه وتصنع انتصارا عظيما بإذن الله



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2165800

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165800 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010