الجمعة 8 كانون الثاني (يناير) 2016

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 8 كانون الثاني (يناير) 2016 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- (75)

الحياة في ظل الشهداء ونسائم الانتفاضة

منذ أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة مطلع شهر أكتوبر من العام الماضي، وأنا أتابع أحداثها، وأسجل تفاصيلها، وأتعقب أخبارها، وأعلق على وقائعها، وأكتب تفصيلاً عنها، وأغوص عميقاً فيما يكتب وينشر، وينسج حولها أو ينسب إليها، وأتناول جوانب مهمة منها، غير الوصف المادي المجرد لأحداثها، والسرد العادي ليومياتها، وإن كانت أحداثها عظيمة ومعاركها ملاحم بطولية، وأسلط الضوء على زوايا جانبية خفيةً منها، وأخرى يظنها البعض غير ذات قيمة، وإن كانت تفوق في قيمتها وقدرها العالي أكثر مما نظن، وترصع حياتنا أكثر مما نرجو ونأمل، وتغطي جوانب من مقاومتنا أكثر إشراقاً وأجمل صورةً، إذ ما خفي دوماً أجمل بكثير مما تراه العيون وتسمعه الآذان.

وكشفت في هذا السفر الذي آمل أن أنشره قريباً عن صفحاتٍ إسرائيلية كثيرة، مخزية ومشينة، ومعيبة ومهينة، وأمطت اللثام عن طبيعتهم المنحرفة، وفطرتهم العوجاء، ونفوسهم المريضة، وسلوكياتهم الشاذة، التي يرتكبها العامة والخاصة، والمسؤولون والمواطنون، والسياسيون والعسكريون، وبينت أنه لا فوارق بين الساسة والمتدينين، وبين المتطرفين والمعتدلين، وبين المستوطنين والعامة، إذ وجدتهم حالاً واحداً، ولساناً مشتركاً، يرموننا جميعاً عن قوسٍ واحدةٍ ولايبالون، وينوون قتلنا ولا يأسفون، ويعتدون علينا ولا يندمون، ويغضون الطرف عن مستوطنيهم وهم يقتلون، ويسكتون عنهم وهم يعتدون، ويشجعونهم إذ يأذنون لهم بالقتل ويصورون، ويطمئنونهم أنهم يلتزمون القانون، وأنهم في مأمنٍ من الملاحقة والمحاكمة فلا يخافون.

كما أمطت اللثام بأقلامٍ إسرائيليةٍ وشهاداتٍ يهودية، وبلسان مسؤولين وإعلاميين عن جبنهم وخوفهم، وعن الآثار السلبية التي لحقت بهم، وعن الخراب الذي حل في اقتصادهم، وعن ندم بعضهم عما حدث، وتحميلهم رئيس حكومتهم المسؤولية عما آلت إلى الأوضاع في المناطق نتيجة سياساتهم الرعناء، وتصرفاتهم الخرقاء، وجرائم مستوطنيهم العنصرية، وأفعالهم غير المسؤولة.

وقد بدأتُ منذ مطلع الانتفاضة إلى جانب ما ذكرت أعلاه في تدوين سفر الشهداء، ومتابعة أخبارهم، وملاحقة قصصهم، فقرأت عنهم الكثير، وما زلت أتابع وأبحث، وأستقصي وأسأل، وأدون الصغيرة قبل الكبيرة، وأحتفظ بالملاحظة والتعليق، وسأواصل البحث والاستقصاء، وسأضم ذلك كله بين دفتي كتابٍ مذهبٍ بأسمائهم، ومعطرٍ بسيرهم، ومحفوظٌ بتضحياتهم، ونديٌ بذكرهم، ذلك أنني أجد كل يومٍ في حياتهم جديداً، وأكتشف من خلال معارفهم وأهلهم ما يجعلنا نعتز بهم ونفخر بما قدموا، علماً أنني أجد متعةً في تقليب أوراقهم، ونبش ذكرياتهم، وفتح صفحات حياتهم، فعندهم ما يجعلهم قدوةً، ومثالاً نتأسى بهم ونحتذي، وقد وجدت أكثرهم في الحياة ناجحاً، وبين أقرانه مميزاً، وفي عمله موقفاً، وفي أسرته سعيداً، وفي محيطه اجتماعياً، ومع والديه باراً، ولأولاده وأهله محباً، ومن قبل لوطنه وفياً، ولشعبه مخلصاً.

كثيرةٌ هي التفاصيل التي وجدتها، والأخبار التي عرفتها، والأسماء التي حفظتها، والقصص والحكايات التي يرويها الأهل، ويحكيها السكان، وتتناقلها القرى والأيام التي لم يعد من السهل نسيانها، إذ تعمدت بالدماء، وتعلمت بالشهداء، وصارت من بين أيام الانتفاضة علماً، وهي أيامٌ كثيرةٌ، باتت كالشهب والنجوم، وعلاماتٍ في السماء بها يذكرون، يحفظها الفلسطينيون ويذكرونها، ويؤرخون بها وينسبون إليها، فهذا فجر الشهداء، وهذا صبح الشهادة، وذاك اشراقة الدم، ويوم النصر، وغير ذلك من الأيام التي علمت الانتفاضة وميزتها، حتى بات لكلِ يومٍ وصفٌ، ولكل نهارٍ اسمٌ.

أما الأهل، الأم والأب، والشقيق والشقيقة، والولد والبنت، فهم خير من يروي عن الشهداء، وأكثر من ينبئ عنهم، ويخبرنا عن أيامهم الأخيرة، وحياتهم اليومية، وكيف كانوا يعيشون وبم كانوا يفكرون، وإلام كانوا يطمحون ويتطلعون، فهم يعرفون عنهم كل جميل، ويذكرون من أيامهم كل حسن، وكذا رفاقهم وإخوانهم، وزملاؤهم في الدراسة وأصدقاؤهم في الحي، فإنهم يروون عنهم ما لا نعرف، ويقصون لنا عنهم خير ما نحب أن نسمع ونعلم، ودوماً عندهم جديدٌ يذكرونه، وقصةً يروونها.

ومن الشهداء من ترك خلفه وصيةً مكتوبةً، أودعها في بيته، أو أبقاها في جيبه، أو تركها أمانةً عند بعض من يثق فيهم ويحب، كتب فيها كلماتٍ بسيطةً في صياغتها، ومعدودةً في مفرداتها، إلا أنها تحمل معاني كبيرة، ووصايا عظيمة، ومن وصاياهم الشريفة عرفنا أن بعضهم قد خرج انتقاماً لشقيقه، أو ثأراً لأخته، أو غضباً من أجل دينه، أو غيرةً على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، وما منهم من أحدٍ كان خائفاً أو متردداً، أو جباناً مرتعداً، بل كانوا يقدمون على الموت كباراً، ويواجهون العدو عظاماً، ويقاتلونه فرساناً.

وقد غصت في أعماق بعض الشهداء فوجدتهم كالدرر العزيزة والجواهر والثمينة والماس النادر، وبعضهم مخبوءٌ بين جنبيه كاللؤلؤ الذي يسكن الصدف، فلا يعرف وقدره وقيمته إلا قلة من الناس، ممن يخبرون الناس ويميزونهم عن غيرهم، إذ لدى كل شهيدٍ قصة تجعل منه بطلاً، وتقدمه من بين الناس شهيداً، فيكون هو من بينهم الأفضل والأكثر خيريةً، وكأن الله سبحانه وتعالى قد انتقاه من بين عباده، مصداقاً لقوله تعالى “ويتخذ منكم شهداء”، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينتقيهم ويختارهم، ويصطفيهم ليكونوا مع الأنبياء والصديقين والشهداء، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

الحياة مع الشهداء والعيش معهم، والتنقل بين بساتينهم، واشتمام عبقهم الفواح، ورائحة شهادتهم المعطرة، والاستمتاع بسيرتهم الطيبة، وسماع أخبارهم السارة، فضلاً عن أنه يشعرنا بالفخر تجاههم، والاعتزاز بهم، ورفع الرأس عالياً مباهاةً أنهم منا وأننا إليهم ننتمي، فإنهم في الوقت نفسه يفضحون سرائرنا، ويكشفون عن خبايا نفوسنا، ويعروننا أمام أنفسنا وبعضنا البعض، ويسخرون من حبنا للحياة، ويستخفون من تمسكنا بالعيش الذليل والحياة المهينة، في ظل احتلالٍ يغتصب، وعدوٍ يذل ويهين، وكيف أنهم استطاعوا أن يكسروا أسورة الذل، وأن يثورا على إطار الهوان، وأن يثبتوا للعدو أن الحياة وقفة عزٍ، وأن الخلود والعزة في قتاله والصمود أمامه.

ما أجمل أن نعيش مع الشهداء، ونحيا مع الأبطال الذين صنعوا لما المجد، ورسموا لنا بدمائهم وعملياتهم الجسورة آياتٍ من العز والفخار، فالحياة مع الشهداء ولو من مكانٍ بعيدٍ ممتعةٌ وشيقةٌ، وفيها إيحاءاتٌ لا يمكن إدراكها بسهولة، ولا التعرف عليها ببساطة، إذ يلزمها مواكبة الشهداء، وملازمة الأبطال، والتعرف عليهم عن قربٍ والعيش معهم عن كثبٍ، فهم معينٌ من العطاء لا ينضب، ونورٌ مع الزمان لا يبهت، وضياءٌ مع الأيام لا يعتم.

- (76)

تل أبيب يسكنها الخوف وترهبها الشائعات

ملأت الشائعاتُ شوارعَ مدينة تل أبيب وضواحيها، وسيطرت على سكانها وزائريها، فأغلقت سلطات الاحتلال مدارسها، وعطلت العمل في الكثير من المرافق العامة والخاصة، والتزم السكان بيوتهم، وامتنعوا عن الخروج منها لقضاء حاجاتهم، وكأن مدينة تل أبيب، التي تتصف بالحركة والحيوية، وبالمجون والفجور، والرقص والسهر، والغناء والطرب، قد فرض عليها حظرٌ للتجوال، فأجبر أهلها على البقاء في بيوتهم، وعدم المغامرة بالخروج منها، وساعدهم في اتخاذ قرارهم بالاختباء والاحتماء كثرةُ الإشاعات التي يطلقها المواطنون ويتبادلونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي يؤكد بعضهم فيها وجود منفذ العملية في المدينة، وأنه لم يغادرها بعد، وأن الأجهزة الأمنية لم تتمكن من إلقاء القبض عليه، وتذكر وسائل إعلامٍ إسرائيلية أن نسبة الشائعات في مدينة تل أبيب قد زادت بنسبة 5000%، التي تتحدث عن رؤية البعض لأشخاصٍ يشبهون منفذ العملية في أكثر من مكانٍ من أحياء مدينة تل أبيب الراقية.

وجاء اتصال الحكومة الإسرائيلية بالسلطة الفلسطينية دليلاً آخر على عجز سلطات الاحتلال وفشلها، وأنها تجد صعوبةً في تحديد خطواتها القادمة، إذ طلبت رسمياً من السلطة الفلسطينية المساعدة في إلقاء القبض على الفاعل، أو تزويدهم بما يتوفر لديهم من معلوماتٍ عنه تساعد في التعرف على مكان وجوده، أو تسهل القبض عليه أو قتله، ويبدو أن التنسيق بين أجهزة أمن الجانبين قائمة ونشطة، وهي تسير بوتيرةٍ سريعة، وكأنها تسابق منفذ العملية لتصل إليه قبل أن يواصل عمليته ويهاجم أهدافاً أخرى.

كما لم تتضح بعد دوافع عملية إطلاق النار في حانة تل أبيب، وما زالت العملية يكتنفها الكثير من الغموض، والمسؤولون الإسرائيليون، الأمنيون والعسكريون، يتخبطون بغير وعيٍ، وتتعارض تصريحاتهم من غير علمٍ، وإن كانوا قد نجحوا في تحديد هوية منفذ العملية، وقالوا بأنه نشأت ملحم، وأنه من بلدة عارة، إلا أنهم لم يحسموا أمرهم بعد، ولم يقطعوا بأنه هو منفذ العملية، وإن كانت كل الدلائل والظنون تشير إليه، فضلاً عن شهادة والده، وتعرف أهله عليه، إلا أن الظنون ما زالت تساور المسؤولين الإسرائيليين، وتحول دون حسمهم للقضية، التي يبدو أنها ستلحق بهم هزيمة وستعرضهم للنقد والسخرية والتهكم، حتى ولو نجحوا بعد حين في إلقاء القبض عليه أو قتله وحسم هويته.

تباينت الآراء حول دوافع العملية والجهة التي تقف خلفها، فبعض الإسرائيليين يحاول أن ينفي عنها الصفة القومية، ويصفها بأنها عملية جنائية، وأن خلفها أسباب ودوافع شخصية، لا تمت للصراع القومي العربي الإسرائيلي بصلة، بدليل قيام المنفذ بقتل سائق سيارة عربي كان متواجداً ساعة وقوع الحادث في مدينة تل أبيب، وإن كان البعض يقلل من هذه الحادثة، ويفسرها بالمصادفة المحضة، نظراً إلى حاجة المنفذ لسيارةٍ يهرب فيها بسرعة، ليتخفى ويتوارى عن الأنظار، فحكمت الصدفة أن يكون سائق السيارة عربياً، ولو كان يهودياً فإنه كان سيلقى المصير ذاته، وهو ما يضعف أصحاب جنائية العملية، الذين يعززون رأيهم بدليل أن منفذها كان قادراً على مواصلة إطلاق النار، وكان قادراً على تزويد بندقيته بأعيرة نارية وذخائر جديدة، ولكنه لم يقم بذلك، وآثر الفرار والانسحاب، في الوقت الذي لم يطلق عليه النار أحد من المتواجدين في المكان أو المارة، علماً أن هناك مصلحة كبيرة للأجهزة الأمنية في نفي الصفة القومية عنها، وتوصيفها جنائياً، لأنها تعفيهم من المسؤولية المباشرة، وتحيل الأمر إلى الشرطة، التي تعتبر الجرائم الجنائية اعتيادية وطبيعية.

وهناك فريقٌ آخر يسند العملية إلى داعش، التي نجحت في الأشهر الماضية في استقطاب عددٍ من أبناء الأرض المحتلة عام 48، وهم مجموعة من الشباب لحقوا بها وانتسبوا إليها، وعملوا في صفوفها، وغامروا حتى ينخرطوا في صفوفها، وبعضهم قاتل وقتل في معارك العراق وشمال سوريا، هذا إلى جانب الرسالة الصوتية لخليفة داعش أبي بكر البغدادي الذي هدد الكيان الصهيوني بأن عمليات داعش إليهم قادمة، ورغم أن منظري الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يستبعدون هذا الاحتمال، ويرون أن داعش لم توجه سلاحها إليهم، إلا أن هذا الاحتمال يبقى عندهم قائماً، ويجدون أنفسهم مضطرين للتعامل معه على قاعدة الجدية في التهديد، ذلك أن منفذ العملية كان يحمل في حقيبته مصحفاً شريفاً، وكان يلبس ملابس سوداء كتلك التي يظهر بها عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، فضلاً عن أن البندقية التي كان يحملها حديثة، وهي ليست كلاشينكوف أو أم 16، وقد تكون إيطالية الصنع.

لكن التيار الإسرائيلي الغالب يصف العملية بأنها نفذت على خلفية قومية، وأن منفذها وإن لم يكن منتمياً إلى فصيلٍ فلسطيني، ويعمل وفق تعليماته وتوجيهاته، فإنه يصنف فلسطينياً غاضباً، ساءه ما يحدث في المناطق الفلسطينية، وأغضبه ما يرى من حوادث القتل اليومية، فقرر أن يقوم بعملٍ يساند به شعبه، ويقف به معهم في انتفاضتهم المستمرة، وهذا الفريق يرى أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق والعقل، وغيره يبقى مجرد محاولات للهروب من المسؤولية، وتخفيف حدة النقد التي من الممكن أن تطالهم نتيجة فشلهم ونجاح منفذ العملية في التنفيذ والفرار ولو إلى حينٍ.

ذلك أن نجاح الشاب ملحم في تنفيذ عمليته في قلب تل أبيب، واستخدام بندقيةٍ آليةٍ رشاشة، وإطلاقه النار بغزارةٍ ولفترةٍ طويلةٍ نسبياً، وتمكنه من قتل اثنين وإصابة عشرة بجراحٍ بعضهم جراحه خطرة، ثم نجاحه في الفرار والتواري عن الأنظار في وضح النهار، وما زال لليوم الرابع على التوالي مختفياً لا يعرف مكانه أحد، ولا تستطيع المخابرات الإسرائيلية بكل إمكانياتها الوصول إليه وإلقاء القبض عليه وهو في مدينة تل أبيب، التي تخضع لسلطتهم، ولا يوجد فيها غيرهم، ولا ينازعهم السلطة عليها وفيها سواهم، ومع ذلك فقد كشفت العملية عن عجزهم، وأظهرت فشلهم ونقص قدراتهم وإمكانياتهم، وهم الذين يدعون التميز والتفوق، والقدرة والسرعة والحسم، علماً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد أصدر تعليماته إلى قيادة الجيش لتشترك في عملية البحث عن منفذ العملية وتحديد مكانه.

قد تتباين الآراء وتختلف، وقد تكثر التفاسير وتتعدد، ولكن الشئ الوحيد الذي لا يمكن إنكاره أو تجاهله، كما لا يمكن التقليل منه أو التخفيف من مظاهره، وهو أن شوارع مدينة تل أبيب، المدينة العامرة بسكانها، والساهرة باللاهين فيها، والغنية بمتاجرها والنشيطة بالحركة فيها، قد باتت خاوية من المارة، وخلت شوارعها من سكانها وزوارها، حتى بدت مسكناً للأشباح، ومدينة للخائفين من الموت والهاربين منه.

- (77)

الانتفاضة الفلسطينية في عيونٍ غربية

لم ينتظر العالم ثلاثة أشهرٍ أو أكثر حتى يشكل وجهة نظرٍ عن الانتفاضة الفلسطينية، وحتى يكون له رأيٌ خاصٌ ومستقل، ورؤية أولية تتفق مع مبادئه وأفكاره، وتنسجم مع قيمه ومفاهيمه، وتنعكس على سياساته وقراراته، بعيداً عن التأثيرات الإعلامية والضغوط السياسية الإسرائيلية، واللوبي الصهيوني المنتشر في جميع أنحاء العالم، والمتغلغل في أنسجته المختلفة، والمتحكم في قراراته السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، الذي يريد من دول العالم المختلفة أن تري الأحداث بعيونٍ إسرائيلية، وأن تقدر الوقائع من وجهة نظر كيانهم، وأن تحكم على ما يجري بناءً على مصالحهم، وأن تغض الطرف عن كل ناقدٍ لهم، أو مستنكرٍ لسياساتهم، أو رافضٍ لممارساتهم، كما تطالبهم بألا يستجيبوا إلى الشكاوى الفلسطينية، وألا يصدقوا روايتهم، أو يصغوا إلى حكايتهم، وألا ينساقوا وراء دعاوى الظلم والاضطهاد التي يدعي الفلسطينيون أنهم يتعرضون لها.

لكن دول العالم المختلفة، الأوروبية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا والصين ودول أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا وغيرهم، قد شكلت منذ الأيام الأولى للانتفاضة وجهة نظرتها الخاصة، وأكد عليها مسؤولوهم ووزراء خارجيتهم، وجاهروا بها وأعلنوا عنها في مختلف المحافل وعلى كل المنابر، وهي وإن تباينت واختلفت نسبياً، حسب درجة تأييد وانحياز بعضهم إلى الكيان الصهيوني، إلا أنها تكاد تكون متشابهة أو متقاربة، إلا في موقف الإدارة الأمريكية، التي تفردت بموقفها، التي تتفهم أوضاع الكيان الأمنية، وأنه يعيش ظروفاً قاهرة، ويتعرض إلى هجمةٍ إرهابية، تتطلب منه الحزم والشدة لضمان أمن مواطنيه وسلامة مصالحه.

أما بقية دول العالم المختلفة، بما فيها دول أوروبا الغربية وكندا وأستراليا، فإنهم قد أدانوا بشكلٍ أو بآخر، وبعباراتٍ واضحةٍ وليست غامضة، وصريحةٍ ومباشرة، الممارسات الإسرائيلية، وحملوها مسؤولية تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن سياستها الاستيطانية وتلك المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى، وتعنتها في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وتعطيلها لمساره بحججٍ مختلفة، هي التي كانت سبباً في اندلاع الانتفاضة، وانفجار الأحداث دفعةً واحدةً في كل المناطق الفلسطينية، وهي التي خلقت حالة اليأس والإحباط العامة لدى الشعب الفلسطيني.

أجمعت دولٌ كثيرةٌ على نقاء الانتفاضة، ووصفوها بأنها نقية وصافية، ولا تتخللها مصالح غير فلسطينية، أو منافع فئوية وحزبية، بل هي انعكاسٌ صادق لحاجة المواطنين ورغبتهم، وإحساسهم بالظلم الواقع عليهم، ورفضهم الخضوع للسياسات الإسرائيلية، ورأوا أنها مستقلة وغير تابعة، فلا تخضع لإرادة خارجية، ولا تسيرها قوةٌ أجنبية، ولا تتبع في قرارتها لتنظيماتٍ أو هيئاتٍ، حتى أن الأحزاب والتنظيماتٍ غير قادرة على الوصول إليها والسيطرة عليها، أو التسلل إلى هرمها القيادي الذي تحاول خلقه وتشكيله ليكون لها وخاصاً بها دون غيرها، لهذا فهي انتفاضة أفرادٍ مستقلين، قل منهم من ينتمي إلى تنظيمٍ يحركه ويوجهه، أو يتبناه وينسبه.

وأنها انتفاضةٌ شابةٌ، أغلب عناصرها الذين يندفعون وينفذون عمليات طعنٍ ودهسٍ، والذين ينخرطون في المظاهرات وينتظمون في المسيرات، والذين يشكلون أغلب الشهداء، هم من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، وكثيرٌ منهم يصنفون أطفالاً، ممن تقل أعمارهم عن ستة عشر عاماً، مع حضورٍ لافتٍ للفتيات اللواتي يشاركن الشباب الذكور في مختلف الفعاليات، ويقمن بما يقومون به، فيطعن ويهاجمن ويقتلن، إذ أن نسبة عدد الفتيات الشهيدات تصل إلى 12% من عدد الشهداء، وهي نسبة قابلة للزيادة كل يوم.

وهي انتفاضة المتعلمين والمتميزين، إذ أن أغلب الشهداء هم من طلاب الجامعات أو تلاميذ المدارس، وهم طلابٌ نابهون أذكياء، ومتميزون نشطاء، لا يدفهم الفشل إلى الانخراط في المشاركة، وتقليد غيرهم في أعمالهم كالطعن والدهس، بل إنهم في فصولهم الدراسية متميزون ومتقدمون، بشهادة زملائهم وأساتذتهم، الذين يشهدون وعلاماتهم الدراسية بأنهم متفوقون في الدراسة.

ويزيدون في وصف جيل الانتفاضة الثالثة بأنه جيلٌ ذكيٌ وواعي، فلا تخدعه المظاهر، ولا يؤمن بالسراب، ولا يجري وراء التصريحات الجوفاء، وإنما يفكر ويقدر، ويدرس ويقرر، كما أنه يحسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويتفاعل معها، ويستفيد منها، وهم يعيشون حياةً أسرية هانئة وسعيدة، وتربطهم بالآخرين علاقاتٌ اجتماعية جيدة، فلا يعانون من اضطراباتٍ نفسية وعقدٍ اجتماعية.

ويصف كتابٌ وصحفيون أجانب يعملون في الأرض المحتلة ويغطون ما يجري فيها، الانتفاضة بأنها فجائية ولحظوية، أي أن المنفذين يقررون فجأة تنفيذ عملياتهم، ويعزمون في لحظتهم على مهاجمة عدوهم، دون إعدادٍ مسبق، أو تحضيرٍ سابق، وبدون رصدٍ ومتابعة وتحديد الهدف وساعة التنفيذ وخطة العمل والانسحاب بعد التنفيذ، بل إن بعضهم يقرر الهجوم أثناء ذهابه إلى المدرسة أو عودته منها، ويشهد على ذلك أهلوهم الذين يؤكدون أنهم لم يلاحظوا عليهم شيئاً قبل تنفيذهم للعملية، إذ لا يبدو عليهم الاكتئاب أو الانعزال، ولا يميل بعضهم للجلوس مع عائلاتهم والتودد إليهم بقصد وداعهم والسلام عليهم، الأمر الذي يؤكد فجائية القرار.

ويضيفون بأنها انتفاضة الأداة الحديدية الحادة، فلا سلاح غير السكين يحمله الفلسطينيون إلى جانب الدهس، إلا أن سلاح السكين متوفرٌ للجميع، فهو أداة المطبخ التي لا تثير شبهةً، أما الدهس فهو الوسيلة الأقل استخداماً لأنها غير متاحة للجميع، إذ لا يتنقل بسيارته الخاصة على الطرق العامة المتاخمة للمستوطنات والمتقاطعة مع الشوارع الإسرائيلية إلا عددٌ قليلٌ من الفلسطينيين، الذين يحصلون على تصاريح خاصة تمكنهم من عبور الحواجز والبوابات العسكرية الإسرائيلية.

هذا الوصف الدقيق للانتفاضة ليس وصفاً فلسطينياً، ولا هو تقرير محللٍ عربي، إنما هي آراء رسمها وكونها إعلاميون ومراسلون لوسائل إعلامٍ محليةٍ خاصة ببلدانهم، ينتشرون في كل مكان، ويتوزعون على مختلف البلدات، ولهم مكاتب ومراكز، وعندهم عاملون وموظفون، ومصورون وصحفيون، يغطون الأحداث، ويتابعون الفعاليات، ويكتبون التقارير، وينقلون وجهات نظرهم الشخصية وتقديرهم الخاص لما يجري في الأرض المحتلة من أحداث، هذا بالإضافة إلى عولمة الإعلام الذي يشترك في تغطية الأحداث، ويعجل في نقلها وانتشارها، وهو ما يفقد الإسرائيليين زمام التحكم في رسم الصورة وبيان الموقف ونشر الخبر وتعميم الأحداث، ويحرمهم من عاداتهم الأصيلة الموروثة في الكذب والغش والخداع.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2177729

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2177729 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40