الثلاثاء 24 آب (أغسطس) 2010

في أن التوريث إهانة لمصر والمصريين

الثلاثاء 24 آب (أغسطس) 2010 par فهمي هويدي

الحوار الدائر الآن حول مستقبل الحكم في مصر بعضه يهين ذكاء المصريين، وبعضه يجرح كرامة البلد الكبير والعريق ويهوّن من شأنه.

(1)

المشكلة عندي ليست في ما إذا كان ابن الرئيس سيرشح نفسه للرئاسة أم لا، لكنها في مبدأ طرح الفكرة وأخذها على محمل الجد من جانب سياسيين ومثقفين ورجال محترمين، تبين لنا أنهم يعرفون أشياء كثيرة في هذه الدنيا، وأن الشيء الوحيد الذي لم يعرفوه جيداً هو قدر هذا البلد وقيمته.

هل صغرت مصر وهانت إلى الحد الذي يجعل توريث السلطة فيه من الأب إلى الابن موضوعا للمناقشة بين النخب فيه؟

منذ برزت الفكرة قبل خمس سنوات تقريباً وإنا لا أكاد أصدق انها يمكن أن تكون خياراً سياسياً مطروحاً في مصر، لكن ما كان غير قابل للتصديق وقتذاك أصبح حقيقة مبسوطة بجدية أمام الرأي العام الآن، تشي بذلك المساجلات التي باتت تحفل بها وسائل الإعلام والتصريحات التي صدرت عن بعض الشخصيات العامة، والملصقات التي بدأت تظهر على الجدران، إلى غير ذلك من المظاهر التي أثارت درجات متفاوتة من الحيرة والبلبلة. ليس في مصر وحدها بل أيضاً في أوساط عدد غير قليل من العرب الذين يعرفون قدر مصر، وفي ذاكرتهم بقايا انطباعات عن مقامها وكبريائها.

السؤال الذي ذكرته توا سمعته بنصه في دبي وبيروت والرباط، من أناس لا يريدون أن يصدقوا أن ذلك يمكن أن يحدث في مصر. ومنهم من لا يزال عاجزاً عن فهم فكرة أن مصر التي ثارت على الملكية وأطاحتها في عام 1952، هي ذاتها التي تتحاور النخبة فيها حول ما إذا كان يمكن توريث الحكم أم لا.

لقد انتابني شعور بالخزي والانكسار حين سمعت أحد المثقفين الخليجيين يقول إن مصر إلى الستينيات كانت قبلة يتطلع إليها الخليجيون، لكن أحداً لم يتصور أن ينقلب الحال وتنتكس خلال العقود التالية، بحيث تصغر وتصغر متمثلة في نموذج المشيخات الخليجية في الخمسينيات، حتى تخلت في النهاية عن دور ومقام الدولة الكبرى وانحازت إلى فكرة المشيخة أو القبيلة.

(2)

لست في وارد المساس أو انتقاد شخص ابن الرئيس، الذي اعتبر أنه له حق الاحترام والكرامة، لأنه مواطن مصري أولاً ولأنه ابن رئيس الدولة ثانياً. لكن اعتراضي الأساسي منصب على فكرة التوريث، التي أزعم أنها لا تجوز في مصر بأي معيار، لا حضارياً ولا سياسياً ولا أخلاقياً، لذلك أشدد على أنني لست ضد الشخص ولكنني أعترض بشدة على الفكرة والموضوع.

في تفصيل ذلك المنطوق أقول إن الفكرة معيبة ومجرحة من أكثر من جهة : فلا يجوز لدولة كبيرة وعريقة مثل مصر، وإن تردت أوضاعها. أن يمحى تاريخها ويبتذل مقامها لكي تدار بأسلوب «العزبة» التي ينتقل زمام أمرها من جيل إلى جيل في الأسرة الحاكمة. ولا يجوز أن يستهان بإرادة شعب تجاوز عدده ثمانين مليون نسمة فيلغى عقله ومثقفوه وقواه الحية ومؤسساته وخبراته في الحياة، لكي يوضع في نهاية المطاف أمام موقف من ذلك القبيل. ولا يقبل أخلاقياً أن تزور الانتخابات لتأتي بأناس تستخدمهم السلطة في العبث بالقانون والدستور لتوفير «شرعية» مزيفة يحتج بها في حبك عملية التوريث وإخفاء معالم القبح والمهانة فيها.

القائلون بأننا لسنا بصدد توريث يسيئون الظن بنا. إذ بعدما قاموا بتصغير البلد وإهدار قيمته، فإنهم افترضوا في الشعب البلاهة والغباء، كأن الناس لم يفهموا شيـئاً من تعديل الدســتور وفرض المادة 76 التي تم تفصيلها على قد مرشح الحزب الوطني الذي لن يكون سوى الرئيس أو ابنه، ولم يفـهموا شيـئاً من ترفيع الابن وتعيينه أميناً للسـياسات لكي يشق طريقه إلى ما هو أبعد. ولم يفهموا شيــئاً من رفض تعيين نائب لرئيس الجمهورية طوال ثلاثــين عاماً بحجة أنه لا يوجد في بر مصر كلها من يستطيع شغل المكان. ولم يفهموا شيئاً من الهـالات التي أحــاطت بالابن والمــواكب التي تعد له والوزراء الذين يركضون وراءه، والأدوار التي يقـوم بها في دائرة القـرار السياسي، ولم يلاحظوا «التربيطات» التي تتم لحسابه منذ فترة في العديد من المجالات المهمة والدوائر الحساسة. أو عمليات تسويقه عبر قنوات التلفزيون ومن خلال بعض الصحف «المستقلة» التي تلعب مع السلطة والأمن.. إلخ.

الأمثلة لا حصر لها والشواهد بادية لكل ذي عينين، وذلك كله ما كان له أن يقع أو يقدم إليه إلا لأنه ابن الرئيس، ولربما فهمنا الأمر على نحو مختلف لو أنه تساوى مع غيره في الفرص، لكن حين ينتشر البعض لكي يعلقوا على الجدران صوره في حملة ترشيحه للرئاسة، ثم يلاحق الذين يجمعون التوقيعات الداعية إلى التغيير ويتم اعتقالهم وترهيبهم، فلا تفسير لذلك سوى أن هذا التمييز يقوم على شيء واحد هو مساندة ابن الرئيس وقمع من عداه.

قد اتفق مع القائلين بأننا لسنا بصدد توريث من زاوية واحدة، هي أن الحاصل الآن أسوأ بما يسوغ لي أن أصفه بأنه توريث مخادع، ذلك انه يوهم الناس بأن ثمة منافسة على منصب الرئيس بين عدد من المرشحين، في حين ان كل الترتيبات مرسومة بحيث تنتهي عمليا بالتوريث.

(3)

سمعت وقرأت لمن يقول إن الابن لا ينبــغي أن يحرم من حقوق المواطن العادي لمجرد انه ابن رئيس الجمهورية، وانه إذا ترشح وفقاً للقانون والدستور فإن ذلك لا يعد توريثاً، وان بوش الابن ترشح لرئاسة الولايات المتحدة ولم يقل أحد إن ذلك توريث. وفى سياق التسويغ وادعاء البراءة، قال البعض إنه لا غضاضة في انتخاب الابن إذا تم ذلك في ظل انتخابات نزيهة وشفافة.. إلخ.

إذا فنَّدنا تلك الحجج، ومشينا مع الكذاب حتى باب الدار، كما يقول المثل الشائع، سنكتشف الآتي : أن ابن الرئيس مواطن حقاً لكنه ليس مواطناً عادياً، والقرائن التي أشرت إليها قبل قليل تقطع بذلك. والتوافق على منعه من الترشح للرئاسة ليس ظلماً له، ولكنه إعمال للقياس على منع المسؤولين في أثناء توليهم لوظائفهم من التعامل بالبيع والشراء أو الايجار مع مؤسسات الدولة، لإبعاد شبهة استغلال النفوذ، وهذا المنع في المعاملات المالية يسوغ الإقدام على تطبيقه في المعاملات السياسية، التي هي أهم وأخطر من الأولى. لأن المعاملات المالية تدور حول منفعة خاصة تنصب على عين بذاتها، أما المعاملات السياسية فهي وثيقة الصلة بالشأن العام ومستقبل الوطن. وإذا أضفنا إلى ذلك خصوصية الوضع المصري خلال العقود الأخيرة، التي تداخل فيه الحزب الحاكم مع أجهزة الدولة الإدارية والأمنية. فإننا نصبح بإزاء «ظرف مشدد» يجعل المنع ضرورة وليس خياراً. ذلك أن شبهة استغلال النفوذ فيها تغدو أكيدة ومقطوعا بها.

أما حكاية الترشح وفقاً للقانون والدستور فهي من نماذج الاستعباط العلني. وقد سبق أن ذكرت كيف أجريت التعديلات الدستورية وفصلت بحيث تضفى الشرعية على التوريث، الأمر الذي يسوغ الطعن بالعوار والفساد في دستورية تلك التعديلات. ذلك أننا تعلمنا ونحن طلاب في كلية الحقوق، بأن النص القانوني له صفتان جوهريتان هما العموم والتجرد، أما حينما يقنن لصالح شخص أو حالة بذاتها، فإنه لا يعد تشريعاً، وللدكتور عبد الرزاق السنهوري شيخ القانونيين المصريين كلام نفيس بهذا المعنى، أورده في بحث حول الانحراف في استخدام السلطة التشريعية نشرته مجلة مجلس الدولة في بداية الخمسينيات، وهو ما يدعونا إلى القول بأن النصوص القانونية والدستورية التي تتم في ظلها انتخابات الرئاسة مطعون في شرعيتها ومحكوم عليها بالبطلان. ومعلوم أن ما بني على باطل يصبح باطلاً.

يتواصل الاستعباط في القياس على انتخاب بوش الابن رئيساً للولايات المتــحدة بعد بوش الأب. لأنه لا وجه للمقابلة بين الخريطة الســياسية الأمــيركية التي تمثل المؤسسات حجر الأساس فيهـا، وبين الخريطة السياسية المصرية التي لا تلعب المؤسسات فيها أي دور، باستثاء مؤسسة الرئاسة بطبيعة الحال. ثم إن بوش الابن انتخب بعد مضى 8 سنوات من ترك أبيه للمنصب، وهو ما يستحيل ان نجربه في مصر. أما أعلى درجات الاستعباط فتتمثل في التلويح بحكاية الانتخابات الشفافة والحرة والنزيهة، لأن الذين يطلقون ذلك الادعاء هم أكثر من يعرف انه غير صحيح، وأن تلك المصطلحات فقدت رنينها ومعناها في الخبرة المصرية المعاصرة.

إن المضي في ترتيب أمر الانتخابات الرئاسية القادمة بالصورة الجارية الآن واستناداً إلى الإطار القانوني الراهن يمثل إهانة لمصر والمصريين بل إن من شأنه افراز وضع مجرح ومشكوك في شرعيته، والله وحده يعلم ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك، وإلى أي مدى يمكن ان يؤثر على الاستقرار في البلد.

(4)

في البحث عن مخرج آمن وحل سلمي لمشكلة انتقال السلطة في مصر طرحت فكرة تأجيل الانتخابات الرئاسية، والإعلان عن فترة انتقالية لمدة سنتين مثلاً أو ثلاث، يتم خلالها ترتيب أمور البيت وتصويب أوضاعه المعوجة عن طريق إلغاء الطوارئ وإطلاق الحريات العامة، بما يرد للمجتمع اعتباره، ويمكنه من تحديد خياراته المستقبلية.

هذه الفكرة دعا إليها الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية ومنسق الجمعية الوطنية للتغيير في مقال له نشرته صحيفة «المصري اليوم». في 5/10/2008 كما طرحها الأستاذ محمد حسنين هيكل في حوار لاحق نشرته الجريدة نفسها. وكان لكل منهما رؤيته الخاصة في كيفية ترتيب البيت، وإن اتفقا على أن تتولى المهمة جهة مستقلة لها كامل الصلاحيات، وقد حرص الأستاذ هيكل على أن تمثل القوات المسلحة فيها.

نقطة الضعف الأساسية في هذه الفكرة أنها ترهن التغيير المنشود بإرادة النظام القائم، كأنما تدعوه لأن يتنحى طواعية. ثم إن ما تطالب به وتدعو إليه لا يستند إلى ضغط شعبي قوي ينتزع هذه القرارات ويجعل النظام مضطراً إليها. وفي غيبة ذلك الضغط المنشود، فإن الفكرة يمكن التلاعب بها وتفريغها من مضمونها، بما يضيفها في النهاية إلى أحلام الإصلاح السياسي المجهضة.

لأن «الحدأة لا تلقي» بالكتاكيت، كما يقول المثل الدارج، فالأرجح ان يمضي النظام في ترتيب المستقبل على النحو الذي خطط له غير عابئ بحالة الســخط والغضب التي تعم بر مصر. اذ ستجري الانتخابات التشريعية والرئاسية بغير إشراف قضائي، وتحت الإشراف المباشر لوزارة الداخلية، التي ستتولى اتخاذ كل ما يلزم في ضوء التوجيهات السياسية المسبقة التي رسمت الحدود ووزعت الأنصبة. وفي هذه الحالة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإن مقاطعة الانتخابات تصبح حلاً لا بديل عنه. لأنها ستغدو إعلاناً عن رفض المشاركة في العبث بحاضر مصر ومستقبلها. لن تكون المقاطعة فقط تعبيراً عن الاحتجاج على تزوير الانتخابات (الذي تم قبل عدة أسابيع في مجلس الشورى)، وإنها ستصبح أيضاً إعلاناً عن الطعن في شرعية القائمين عليها.

ثمة حجة سقيمة تصف المقاطعة بأنها موقف سلبي، مع أنها في الموقف الراهن تعد الخيار الإيجابي المتاح أمام الوطنيين الشرفاء في مصر، من حيث إن من شأنها فضح اللعبة وتعريتها وإحراج المتلاعبين بها. ثم إننا لم نعرف أن المشاركة في العبث والمنكر السياسي يمكن أن توصف بأنها ايجابية. اذكر هنا بالحديث النبوي الشهير الذي يعتبر انكار المنكر واجباً، وانك إذا لم تستطع أن تغير المنكر بيدك أو لسانك، فلا أقل من أن تنكره بقلبك وأنت قاعد في بيتك.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2176591

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2176591 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40