السبت 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

السبت 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- واجب الأمة بين كلفة الطعن وضريبة المقاومة

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

انتفاضة القدس الثانية مكلفةٌ وباهظةُ الثمن، وستكون مع الأيام مكلفة جداً، فهي ليست شهداءَ يضحون بأرواحهم وأنفسهم في سبيل قضيتهم، ودفاعاً عن وطنهم، وذوداً عن حياض مسجدهم وشرف مسراهم وطهر قدسهم، وهي ليست جرحى ومصابين، يرقدون في المستشفيات ويعانون، أو يغادرونها بعاهاتٍ مستديمةٍ أو بأمراضٍ مستعصية، يطول فيها بقاؤهم ويتعذر علاجهم، ويندر دواؤهم، كما أنها ليست أسرى ومعتقلين، وسجوناً وتعذيباً وقهراً في السجون وخلف القضبان، وأحكاماً عالية وظروفاً اعتقالية قاسية، وهي ليست تضييقاً وحرماناً، ومعاناةً وحصاراً، وتدميراً للمنشئات العامة والبنى التحتية والمؤسسات الوطنية، وتخريباً للاقتصاد الوطني، وإغلاقاً للجامعات والمعاهد والمؤسسات التعليمية، وتعطيلاً للدراسة والمسيرة التعليمية.

ضريبة الانتفاضة أيضاً غير ذلك كله، وهي أكبر مما يتحملها الفلسطينيون وحدهم، وأشد ثقلاً من أن يتركوا لتحملها بأنفسهم، فهم لا يبخلون فيما يملكون، ولا يتأخرون عن العطاء فيما هو بين أيديهم، فتراهم يبذلون الدماء، ويقدمون الأرواح، ويفقدون الحرية، ولكن العدو الصهيوني قد أوجعهم كثيراً وأثقل ظهورهم بأعباء مادية، ونفقاتٍ مالية لا يملكونها، ولا يستطيعون توفيرها، ولا يجدون من يقف إلى جانبهم لمساعدتهم والتعاون معهم، كما أن أوضاعهم الاقتصادية لا تمكنهم من الصمود أو التقليل من آثار السياسات المادية الإسرائيلية السلبية ونتائجها المؤذية، في الوقت الذي تتأخر فيه السلطة الفلسطينية رغم قلة إمكانياتها عن القيام بواجبها، والتصدي لمهماتها، أو الاعتراض على السياسة التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، التي تعلم أنها ترهق الفلسطينيين وسلطتهم، وتتعب المقاومين وتعيي فصائلهم.

إنها سياسة هدم منازل المقاومين، منفذي ومنفذات عمليات الطعن والدهس والقتل، في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فقد صادقت المحكمة العليا الإسرائيلية على قرارات وزير دفاع الكيان الصهيوني ورئيس أركان جيشه المعادي، المؤيدة من قبل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسمحت للجيش بتنفيذ عمليات الهدم والنسف، دون الرجوع إلى جهاتٍ ومرجعاتٍ أخرى، واعتبار أوامر الهدم ناجزة ومبرمة وغير قابلة للاستئناف، وذلك ضمن سلسلة قراراتٍ وإجراءاتٍ عقابية اتخذتها الحكومة الإسرائيلية للحد من انتشار الانتفاضة، ومع شبابها من القيام بأعمال طعنٍ أو دهسٍ أو قنص، مخافة هدم بيوتهم وتهجير أهلهم.

وعليه فقد بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في إجراء عملياتِ إحصاء ومسحٍ ميدانيةٍ لبيوت ومنازل منفذي عمليات الطعن والدهس، تمهيداً لتدميرها أو هدمها، وهو إجراء اعتاد عليه الفلسطينيون، وخبره الأهل في فلسطين على امتداد سنوات مقاومتهم الطويلة، ويعلمون أنه عقابٌ موجعٌ، وإجراءٌ قاسي، إلا أنه لا يردعهم عن المقاومة، ولا يمنعهم من القيام بعملياتٍ عسكرية ضد جيش العدو ومستوطنيه.

الفلسطينيون لا يثقون في المحكمة العليا الإسرائيلية، إن هم قدموا التماساً لها، أو اعترضوا أمامها على القرارات العسكرية القاضية بهدم بيوتهم، لأنها اعتادت دوماً أن ترد التماساتهم، وأن تؤيد القرارات العسكرية القاضية بهدم بيوت المنفذين، وفي أحسن الاحتمالات ترجئ تنفيذ الهدم، وتؤخر النسف لعدةِ أيامٍ ليتمكن قاطنو المنازل من إخراج متاعهم وما يستطيعون نقله، رغم أن عمليات الهدم تتم غالباً فجأةً، وفي جوف الليل والناس نيامٌ، فلا يتمكن أصحاب المنازل من إخراج حاجاتهم الخاصة، أو إنقاذ ممتلكاتهم الصغيرة لا الكبيرة، إلا النجاة بأنفسهم فقط، ذلك أن سلطات الاحتلال لا تمنحهم الوقت الكافي لذلك، كما لا تسمح لهم عمداً بإخراج متاعهم، وذلك إمعاناً في الأذى والحسرة، وتعميقاً للعقاب الجماعي الذي تقصده.

الجديد هذه المرة أن عدد البيوت التي تنوي سلطات الاحتلال تدميرها كبيرٌ نسبياً، بالنظر إلى محدودية الفترة التي لم تتم الشهر الثاني بعد، إذ أن عدد منفذي عمليات الطعن قد اقترب من التسعين شهيداً وشهيدة، وهذا يعني أن عدد البيوت التي ستدمر سيكون موازٍ لعدد الشهداء، فضلاً عن أن بعض المنفذين قد اعتقلوا ولم يقتلوا، ما يعني أن عدد البيوت المهددة بالنسف يتجاوز التسعين بيتاً، علماً أن بعض المنفذين هم من سكان القدس، الأمر الذي يعني أن بيوتهم في المدينة المقدسة ستدمر، وأنها لن تعوض، ولن يسمح بإعادة بنائها من جديد، في ظل تعذر البدائل السكنية، إذ لا أبنية جديدة، ولا بيوت قديمة خالية ومهيأة للإيجار، وفي حال توفرها فإن أجرة تأجيرها عالية، والضرائب المفروضة على المستأجر والمالك باهظةٌ جداً.

هنا يبرز دور الأمة العربية والإسلامية، فهي إن كانت وشعوبها غير قادرة على المساهمة في الانتفاضة، وعاجزة عن الوصول إلى المسجد الأقصى للرباط فيه والدفاع عنه، ولا تستطيع القتال إلى جانب الفلسطينيين والدفاع عنهم، فإنها قادرة على مساندة مقاومتهم، ومساعدة أهلهم، وتعويضهم عما يصيبهم، والمساهمة في صمودهم، وترسيخ وجودهم وبقائهم، إذ أن غاية العدو الإسرائيلي من هدم البيوت ونسف المنازل، تهجير الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم، وهذا بالنسبة له حلمٌ وغاية، لأنه أكثر من يعرف أن الذي يعطي للأرض هوية، وللمقدسات قيمة، إنما هو الإنسان الذي يعمر الأرض ويسكن البلاد، فلا قيمة لوطنٍ لا يسكنه أهله، ولا يقيم فيه أصحابه، وإن كان لهم فيه حجرٌ وبناء، وآثارٌ ومقدسات.

هي دعوةٌ جادةٌ نوجهها إلى القادرين والغيارى في هذه الأمة، وهم ثلةٌ كثيرةٌ، وجماعةٌ كبيرةٌ، ونداءٌ نرفعه بصوتٍ عالٍ إلى الصادقين في نواياهم، والمخلصين في جهودهم، والمؤمنين بحتمية انتصار هذه الأمة، نطالب ميسوري الحال منهم، ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، ومن كل من يرغب في مساعدة الفلسطينيين وتثبيتهم على أرضهم، ودعم وجودهم في القدس، إلى سرعة التحرك وتلبية النداء، فالمقدسيون ينادونهم، والفلسطينيون يناشدونهم، وكلهم ينتظر دورهم ويتوقع عطاءهم، فلنستجب لهم ولا نخيب رجاءهم، ولنكن معهم وإلى جانبهم، رجالاً نقاتل، أو مقاومين نجهز، أو دعماً نرسل، ومدداً نزود.

- فوارق ومميزاتٌ وثوابت

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لا شك أن انتفاضة القدس الثانية التي هي الانتفاضة الفلسطينية الثالثة في العصر الحديث، لها ما يميزها عن غيرها، فهي لا تشبه سواها إلا في الإرادة والتصميم، والعزم والإيمان، والقدرة والتحدي، والصبر والاحتمال، والمحنة والابتلاء، والفقد والخسارة، والاعتقال والشهادة، كونها تواجه تحدياً واحداً وسياسة موحدة، والعدو نفسه الذي لم يتغير ولم يتبدل، والشعب الفلسطيني نفسه بأجياله هو الذي يتحدى ويواجه، ويقاوم ويقاتل، وما اضطربت عنده المفاهيم، ولا تداخلت لديه الأولويات، ولا ضاعت الأهداف، ولا تبدلت لديه الغايات، ولكنه يتلائم مع الظروف، ويطوع الواقع، ويستفيد من المعطيات، بما يبقي على جذوة المقاومة متقدة، ونار الانتفاضة مشتعلة.

إلا أن انتفاضة القدس الثانية تبقى مختلفة بعض الشئ، وعندها مميزاتٌ ليست عند غيرها، ولديها علامات فارقة ومحددات خاصة، وقد يكون ما تميزت به هو نتاج التطور والوعي، وتبدل الظروف وتغير الأحوال، فما كان يصلح في الانتفاضتين السابقتين قد لا يكون مناسباً في هذه الانتفاضة، وما ابتدعته الانتفاضة الحالية ربما لم يكن متاحاً فيما سبق، لكن هذا التميز والاختلاف لا ينقص من قدر أي انتفاضة، ولا يحط من مقامها، ولا يقلل من إنجازاتها، ولا يطعن في مميزاتها، إذ لكلٍ ما يجعلها نسيج وحدها، ومخالفةً لغيرها، بما يتناسب مع ظرفها ويتفق مع زمانها.

تتفق الانتفاضات كلها والثورات التي سبقتها في أنها تشكل تحولاً تاريخياً ومنعطفاً كبيراً في حياة الشعب والأمة، وهذا التحول ينعكس على الاحتلال والمجتمع الدولي كله، فلا يقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، بل يمتد إلى الأمة العربية والإسلامية، ويطال العدو الإسرائيلي وعمقه الصهيوني ويؤثر عليه كثيراً، الأمر الذي يجعلنا نفصل بين مرحلتي ما قبل الانتفاضة وما بعدها، فالحال بعد الانتفاضة بالتأكيد لا يكون كما كان سابقاً ولا يشبهه بحال، والعدو الإسرائيلي أكثر من يعرف ويدرك أن ما بعد الانتفاضة سيكون شيئاً آخر، وعليه أن يهيئ نفسه له، تنازلاً وتراجعاً، وتغييراً وتبديلاً، فما كان يرضي الفلسطينيين قبلها لن يرضيهم بعدها، وما كان يتوقع أنه يسكتهم ويعيدهم إلى مربعاتهم الأولى، لن يقوَ على إخماد انتفاضتهم إلا بثمنٍ يقبضونه ويحسونه، ويرضون به ويوافقون عليه، وهو بالتأكيد ليس العودة إلى المفاوضات، ولا الموافقة على الضمانات، والتسليم بحسن النوايا وصدق المقاصد.

أصوات الفلسطينيين عامةً ترتفع ضد التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي وتطالب بوقفه، وتدين استمراره، وتجرم مشرعيه والذين يقومون ويعترفون به، والذين يطالبون باحترامه والالتزام به، ولعل من الفلسطينيين من يتطرف ويتشدد ويتهم بالخيانة كل من يقوم بالتنسيق وييسره أو يمهد له ويشارك فيه، ويحميه ويدافع عنه، ويزيد غيرهم باستباحة دمائهم ويدعون إلى قتلهم، وينفون عنهم صفة الوطنية، ويجردونهم من الانتماء للوطن والانتساب إلى الشعب، ويرونهم مارقين غرباء، ومندسين عملاء.

الانتفاضة الحالية لا تتطلع إلى تغيير الحال وتحسين الأوضاع وحسب، بل إنها تتطلع إلى الحرية، وتطمع في الدولة، وتهدف إلى الاعتراف بوجود الشعب وحقه في الدولة الوطنية المستقلة بالقدس عاصمةً، وإن اختلفوا بعد ذلك في دولةٍ على كامل التراب الوطني الفلسطيني، أو في دولةٍ على حدود الرابع من حزيران عام 67، إلا أن كلاهما يرى في الانتفاضة منصة نحو الدولة، ورافعة باتجاه التحرير والاستقلال، ولعل العدو بات يدرك أن الانتفاضة تحاصره وتضيق عليه، وأنها تدفعه للاعتراف بحق الشعب في دولة، وفي أن يعيش حراً كريماً سيداً مستقلاً، فلا احتلال يجثم على صدره، ولا عدو يصادر قراره ويستولي على مقدراته.

انتفاضة القدس الثانية فسحت المجال واسعاً للمرأة الفلسطينية، الشابة والزوجة والطالبة، فباتت تنافس الرجال وتسبقهم، وتقوم بما يقومون به وتبزهم، وتصنع صنيعهم وأكثر، وتصل إلى ما يصلون إليه وتتجاوزهم إلى ما هو أبعد وأعمق وأصعب وأشد خطراً، حتى اعترف العدو الإسرائيلي أنها خصمٌ عنيدٌ، وعدوٌ متينٌ، لا تقتصر قوتها على تربية الأجيال وتنشئة الرجال، بل تجاوزتها إلى الجبهة والميدان، والساحة والنزال، حتى كانت لها عملياتٌ نوعية وكبيرة، جديدة وكثيرةٌ وبصورة شبه يومية.

انتفاضة القدس الثانية كشفت عن حقيقة أن الاحتلال كله جبهةٌ واحدةٌ معادية، حكومةً وجيشاً ومستوطنين وعامةً، كلهم سواء، فلا مدنيين بينهم، ولا مسالمين فيهم، ولا من يوصف فيهم بالعقل والاعتدال، والاتزان والوسطية، فأكثر الشهداء قتلوا برصاص المستوطنين والمواطنين المارة، فضلاً عمن قتلهم الجيش وعناصر الشرطة وفرق المستعربين المجرمة، الأمر الذي يجعلهم جميعاً يتشابهون في التطرف، ويتحدون في المواقف العنصرية المتشددة ضد كل العرب والفلسطينيين، ولعل سلوك المستوطنين وتصرفات اليهود المتدينيين هي التي عجلت في اندلاع الانتفاضة واستمرار فعالياتها غضباً وانتقاماً.

لكن يخطئ الإسرائيليون إذا ظنوا أنهم إن أحسنوا صنعاً، وأبدوا ندماً، وتراجعوا عن بعض تصرفاتهم، وامتنعوا عن تنفيذ بعض سياساتهم، خاصة تلك التي كانت موجهة ضد القدس وسكانها، ومسجدها الأقصى وباحاته وبواباته، فإن الفلسطينيين سيتراجعون عن انتفاضتهم، وسيعودون إلى سابق حياتهم، وسيقبلون بالواقع الذي كان، لكن الحقيقة التي يجب على العدو أن يدركها أن سلوكياته الأخيرة قد تكون قد ساعدت في اندلاع الانتفاضة أو التعجيل بها، لكن الأصح من هذا والأصوب، أن واقع الاحتلال والظروف العامة التي يعيشها الفلسطينيون هي التي تراكمت واتحدت، واجتمعت وائتلفت، فصنعت الانتفاضة، وفجرت الأحداث، وكشفت عن حجم الثورة الكامنة لدى الشعب، والجاهزة للانطلاق في وقتها.

انتفاضة القدس الثانية يجب أن تكون مختلفة ومتميزة، ولا ينبغي أن تكون مشابهة لما سبقها أبداً، فتكون ثورةً وتهدأ، وعاصفة وتسكن، ورياحاً تهب ثم تتوقف، بل ينبغي أن تكون هذه الانتفاضة مفتاح التغيير، وبوابة الانعتاق، والسلم الأصيل نحو الحرية والاستقلال، وإلا أُحبط الشعب، وملت الأمة، وتعذر على الثوار من بعدها أن يستنهضوا شعبهم ويستأنفوا معه مقاومتهم، أو يقنعوه بالثورة من جديد، والتضحية مرةً أخرى، إضافةً لما مضى، وزيادةً على ما قدم، دون ثمرةٍ تُقطف أو إنجازٍ يُحقق.

- النفير الإسرائيلي العام

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

الجيش في كل مكانٍ، والشرطة تجوب المناطق، والمستوطنون يحملون مسدساتهم، والمواطنون يقبلون على شراء الأسلحة الفردية، والسيارات العسكرية تنتقل من مكانٍ إلى آخر، والحواجز تنصب، والبوابات تغلق، وأصوات الطلقات النارية تشق الصمت وتطغى على ضوضاء النهار، وقنابل الغاز المسيلة للدموع تطلق بكثافة، حتى بدا غازها سحباً بيضاء، تغطي السماء، وتنتقل إلى كل مكان، ودماءٌ وسكاكينٌ وبنادقٌ ومسدساتٌ، وقتلى على الطرقات، وجرحى يئنون في الشوارع وينزفون، وسيارات إسعاف تطلق صافراتها وتشق طريقها، تحمل معها أو تسعى لنقل جرحى ومصابين، وأطواقٌ أمنية ومناطق مغلقة لا يسمح فيها لأحدٍ بالدخول أو الاقتراب، وآخرون يجرون ويهربون، ويمنةً ويسرةً وخلفهم يلتفتون، خائفون جزعون ومن مجهولٍ يفرون.

كأن الحكومة الإسرائيلية قد دخلت حرباً مفتوحة، وتخوض معركةً عسكرية حقيقية، على جبهاتٍ متعددة وفي ميادين مختلفة، فأعلنت حالة الاستعداد القصوى، والاستنفار الكامل في كل أجهزتها وقطاعاتها العسكرية، فاستدعت الاحتياط، وألغت الإجازات، فهي ترى أن الانتفاضة معركةٌ يلزمها الجيش بكامل قوامه وعتاده ورجاله وسلاحه، لتصدها وتضمن النصر الذي تريد عليها، فأعلنت لذلك النفير العام، لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية الوليدة، والتصدي لفاعلياتها وأنشطتها، وقمعها وإحباطها، ومنع امتداد حالة الغضب الفلسطينية إلى أماكن جديدة، خاصة تلك التي على تماس مع البلدات الإسرائيلية، أو القريبة من المستوطنات، والتي تطل على الطرق والشوارع التي يعبر فيها ويطرقها إسرائيليون، خوفاً من تعرضهم لأي خطرٍ محتملٍ.

لهذا فقد دعت قيادة أركان جيش العدو إلى التعبئة العامة في صفوف جيشها ومستوطنيها، وأصدرت لجنودها وضباطها الأوامر والتعليمات الواضحة والصريحة، بضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة، والاستعداد التام، والجاهزية المطلقة لإطلاق النار على أي فلسطيني مشتبه فيه، سواء كان الفلسطيني رجلاً أو امرأة لا فرق، فكلهم هدفٌ مشروع، وكلهم “إرهابيون” يجب قتلهم، وقد صدق الإسرائيليون جميعاً هذه الدعوة وآمنوا بها، وحملوا أسلحتهم وطافوا بها يتجولون في أحياء القدس ومدن الضفة الغربية، لا ليحموا أنفسهم من أي خطرٍ يرونه داهماً، ولا للدفاع عن أنفسهم أمام أي “هجومٍ أو اعتداءٍ” فلسطينيٍ متوقع، بل خرجوا للبحث عن ضحيةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ، يتهمونها ويطلقون النار عليها، ثم يبحثون لها عن تهمةٍ وادعاءٍ يبررون ويجيزون بها جريمتهم.

وكانت الحكومة الإسرائيلية قد عقدت في الأيام الأولى للانتفاضة اجتماعاً مفتوحاً لمجلس الوزراء المصغر “الكابينت”، ضم إلى جانب رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والأمن والدفاع، عدداً من الضباط وقادة الأجهزة الأمنية، والمكلفين بمهامٍ أمنية وشرطية في مدينة القدس، واستمعت منهم إلى تقارير مفصلة عن الأحداث الجارية وتوقعاتهم، وخلصت إلى جملةٍ من القرارات والتوصيات، أهمها اعتبار الكابينت في حالة انعقادٍ دائمٍ لمتابعة آخر التطورات ومواكبة الجديد منها، وإصدار التعليمات المناسبة لمجابهة حالة “الفوضى” التي تسود “البلاد”، كما أعطت تعليماتٍ واضحة بالسماح للمواطنين باستخدام السلاح الناري للدفاع عن أنفسهم أمام الأخطار الفلسطينية المتلاحقة، وعدم ملاحقتهم قضائياً.

ووفقاً لصحيفة هآرتس الإسرائيلية فإن قيادة أركان جيش الاحتلال قد قررت استدعاء أربعة كتائب احتياط للخدمة في الضفة الغربية، وتدرس إمكانية استدعاء لغاية سبعين كتيبة إضافية في حال استمرار الأحداث في الضفة واتساع رقعتها، وتعذر السيطرة عليها، في ظل رفض السلطة الفلسطينية التعاون معها والاستجابة إلى المطالب الإسرائيلية بضرورة تهدئة الأوضاع في عموم الأراضي الفلسطينية.

أما القناة العبرية الثانية فقد ذكرت أن وزير دفاع الكيان الإسرائيلي موشيه يعالون، قد قرر إثر اجتماعه مع قياداتٍ أمنيةٍ وعسكرية عليا، وضباطٍ يعملون في الميدان، إرسال مزيدٍ من القوات العسكرية إلى مناطق التوتر في الضفة الغربية، بالإضافة إلى تعزيز التواجد الأمني في مدينة الخليل ومحيطها، وذلك بعد الزيادة الملحوظة في عمليات الطعن والدهس التي وقعت فيها، أو تلك التي خرج منفذوها منها إلى مختلف المناطق في القدس والضفة الغربية.

أما الكابينت الإسرائيلي فقد أعطى الموافقة لقيادة الأركان للقيام بعملياتٍ عسكرية موضعية في الضفة الغربية لإجهاض أي عملٍ من شأنه أن يهدد أمن كيانهم وسلامة مستوطنيهم، بعد أن ذكرت تقارير أمنية إسرائيلية بأن الجناح العسكري لحركة حماس ينشط في أكثر من مكانٍ في الضفة الغربية، وأن هناك أيادي خارجية في غزة وتركيا تحاول خلق خلايا عسكرية صغيرة، لتفعيل الانتفاضة وإسناد جمهورها، الأمر الذي يستدعي تدخل قوة عسكرية صاعقة من الجيش، تداهم مقار القيادة، وتدمر الخلايا المشكلة قبل أن تباشر أعمالها على الأرض، وهناك فريق من الضباط العسكريين الكبار من يدفع بهذا الاتجاه، مبرراً ذلك أن جيشه قادر على أن يتحمل معركة عسكرية لعدة أيامٍ، ولكنه بالضرورة سيتعرض لاستنزافٍ كبير إذا طلب منه مواجهة انتفاضة قد تستمر لسنوات.

قد لا يقصد الإسرائيليون من خلال حالة العسكرة التامة، والاستنفار الكبير الذي أعلنوا عنه، أنهم يتعرضون لخطرٍ حقيقي يستهدفهم، ولكنهم من خلال استعراضات القوة التي يقومون بها، يريدون توجيه رسالتين واضحتين وصريحتين ومباشرتين، الأولى إلى الفلسطينيين وسلطتهم وفصائلهم، بأنكم لن تستطيعوا مواجهة هذا الجيش القوي المجهز والمستعد لمواجهتكم، وخوض أشد المعارك ضدكم، وفي النهاية فإن الجيش ستنتصر، والانتفاضة ستنتهي، وستلحق بكم خسائر كبيرة، وسيكون الشعب هو الخاسر الأكبر.

أما الرسالة الثانية المقصودة من حالة الاستنفار، فهي موجهة إلى المجتمع الدولي عامةً، وإلى دول أوروبا الغربية خاصةً، بأن كيانهم يعيش حالة حربٍ حقيقية، وأنه يواجه عدواً شرساً يستهدف أمنهم وسلامة مواطنيهم، الأمر الذي يوجب عليهم استخدام أقصى ما لديهم من قوة لإنهاء حالة الخطر التي يتعرضون لها، وكأنهم بهذا يطلبون الإذن من المجتمع الدولي باستخدام القوة المفرطة، ويسألونه أن يتفهم تصرفاتهم، وأن يقبل بسياستهم، لأنها السياسة الطبيعية لهم ولأي دولةٍ أخرى تتعرض للخطر.

- أهلاً بكم وسهلاً في فلسطين

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

فوق أجواء مدينة القدس المحتلة التي كانت تمور بالأحداث، وتشتعل بالمواجهات، وتدور في شوارعها مطارداتٌ بالسكاكين والسيارات، وتغص بالجنود الإسرائيليين والسيارات العسكرية، ورجال الشرطة والخيالة، والمستوطنين والمتدينين والطلاب اليهود، وآلاف الفلسطينيين الذين يحاولون الوصول إلى مسجدهم الأقصى، أو العبور إلى بوابات الحرم، وشهداءٌ وجرحى ومعتقلون، وحوادث طعنٍ ودهسٍ، وحالة غضبٍ وثورةٍ، وقبل قليلٍ من وصول الطائرة الأسبانية إلى مطار اللد القديم وسط فلسطين المحتلة، وبينما هي تتهيأ للهبوط على مدرج المطار، أعلن قائد الطائرة الأسبانية عن قرب هبوط الطائرة في مطار اللد، ورحب بكلماتٍ واضحةٍ وبلغةٍ سليمةٍ مفهومةٍ بركاب طائرته قائلاً “أهلاً وسهلاً بكم في فلسطين”.

ران صمتٌ شديدٌ على ركاب الطائرة، وأغلبهم من الإسرائيليين العائدين من رحلةٍ لهم في أسبانيا، وبدأوا في الالتفات إلى بعضهم البعض، فقد عقدت تحية قائد الطائرة، الواضحة الحروف البينة الكلمات الصريحة المباشرة ألسنتهم للحظاتٍ، ظنوا خلالها أن طائرتهم قد أُختطفت، وأن الصوت الذي سمعوه كان صوت خاطفي الطائرة، وأن الخاطفين بالتأكيد عربٌ أو فلسطينيون، وأنهم قد تمكنوا من اختطاف الطائرة وركابها، وأنهم الآن فيها رهائن بين أيديهم، وقد لا يكتب لهم الحياة.

الإسرائيليون العائدون من أسبانيا وأوروبا يتابعون أخبار الانتفاضة وحرب السكاكين، وقد شاهدوا صور مواطنيهم ومستوطنيهم وهم يفرون مذعورين، ويتحركون خائفين، فالسكين تلاحقهم، والسيارة تطاردهم، والموت يتربص بهم طعناً أو دهساً، وهم قد سمعوا استغاثات رئيس حكومتهم رغم تهديداته المتكررة، ووعوده الكبيرة، إلا أنه لم يستطيع أن يخفي خوفه من حجر الانتفاضة الذي قد يكبر، وإن كان الحجر منذ الساعات الأولى قد استحال سكيناً تطعن وتقتل، لهذا فقد ظن ركاب الطائرة أن الأمور كلها قد تغيرت في الساعات القليلة الماضية التي قضوها في رحلتهم، وأن مطار اللد والعاصمة القدس والمراكز الرئيسة قد سقطت في أيدي المقاومة الفلسطينية، ولم يعد جيش كيانهم يحميهم ويدافع عنهم، وإلا لماذا يرحب قائد طائرة دولةٍ صديقةٍ بهم في فلسطين، وليس في إسرائيل.

لم يدر في خلد الركاب الإسرائيليين أبداً أن هذه الكلمات قد صدرت فعلاً عن قائد الطائرة الأسبانية التي أقلتهم من مدريد، وتساءلوا بحيرةٍ وقلقٍ، ربما هي مزحةٌ ثقيلة، أو مقلبٌ سمجٌ، أو دعابة غير مستظرفة، أو أي شئٍ آخر إلا أن تكون حقيقة وليست خيالاً، مسحوا بأيديهم وجوههم، فركوا عيونهم، هزوا بعنفٍ رؤوسهم، علهم يستيقظون من نومهم، أو يفيقون من سباتهم، ليتخلصوا من هذا الكابوس الذي باغتهم، والحلم المزعج الذي راودهم، ولكن ما سمعوه كان حقيقةً هو صوت قائد الطائرة، الذي بدا واثقاً غير مضطرب، ولم يكن واقعاً تحت التهديد أو الضغط، فطائرته غير مختطفة، ولا يوجد على متنها إرهابيون أو خاطفون.

أدرك الإسرائيليون في الطائرة وفي الكيان والصهيوني وخارجه، كما أدركت الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، أن هذه هي الانتفاضة الفلسطينية، وما حدث في الطائرة الأسبانية ليس إلا إحدى ثمارها وبعض نتائجها الطيبة، ولن يتوقف الحصاد عندها بل سيتلوه آخر، وقد يكثر الجنى ويتضاعف القطاف ويتشجع الزراع، فيبذلون المزيد من الجهد، ويمضون في الانتفاضة إلى أبعد مدى، فقد تبين لهم أنها مجدية ونافعة، وأنها تثمر وتورق، وأن خيراتها أكثر بكثيرٍ من التسول والحوار، ومن الذل والمفاوضات.

كم نحن بحاجةٍ إلى استعادة ثقة العالم والشعوب بنا، فقد كانت القضية الفلسطينية هي قضية الشعوب كلها، يحملها أحرار العالم، ويقاتل في سبيلها المناضلون من أجل الحرية، والساعون إلى حقوق الإنسان، ولا يتأخر عن تأييدها أحد، العرب يمدونها بالمال والرجال، ويفسحون لها المجال، ويفتحون لها الأبواب، وكثيرٌ من دول العالم ترحب بها، وتفتح في عواصمها سفاراتٍ لها، ومنها من كانت تمد الثوار وفصائل الثورة الفلسطينية بالسلاح والعتاد، وتدرب رجالهم، وتؤهل كوادرهم، وتتيح لهم المجال لاكتساب الخبرات، وتطوير الطاقات، والاستفادة من قدرات البلاد.

فلسطين كانت على كل لسان، وتسكن في كل قلب، ولها عند الكثير مكانة ومنزلة، ممن كانوا يتمنون أن يقدموا لها شيئاً، أو أن يساهموا في مسيرة تحريرها بجهدٍ أو عطاء، وقد ضحى كثيرون في سبيلها بحريتهم وأرواحهم، وخسر غيرهم ممتلكاتهم ومناصبهم ومراكزهم الرسمية، ذلك أنهم كانوا يعتقدون أنها قضية حق، وأنها تمس شعباً مظلوماً، وتتعلق بدولةٍ ظالمةٍ معتدية، وتعلقت قلوب الكثيرين من العرب والمسلمين وغيرهم خلال الانتفاضتين الأولى والثانية بفلسطين وشعبها، حتى غدا حجرها رمزاً، ومقلاعها شعاراً، وبات شهداؤها أقانيم يقدرونها ويحترمونها، وقد أطلقوا على شوارعهم وما يخصهم أسماء الشهداء، وكنى الأبطال والأطفال.

اليوم تعود الانتفاضة من جديد، ويعود معها المناصرون والمؤيدون، والمحبون والمساندون، من أبناء أمتنا العربية والإسلامية، ومن المؤيدين والمناصرين الدوليين والأمميين، ومنهم قائد الطائرة الأسبانية الذي خسر جزءاً من مكتسباته، وربما عوقب على ترحيبه، وحرم من رحلاتٍ غيرها.

إنه وغيره كلهم أمل أن تثمر هذه الانتفاضة خيراً، وأن تقود إلى النصر، وأن تصنع دولةً، وأن تعيد الشعب وتنهي معاناته، وتضع حداً لأحزانه، وتتمكن من تحرير أبنائه المعتقلين وأسراه المختطفين، فهذه الانتفاضة مباركة ومقدسة، وهي قادرة على تحقيق ما نحلم به ونصبو إليه، وهي إذ يحبها الفلسطينيون، ويتطلع إليها العرب والمسلمون، فإنها تخيف العدو وحلفائه، وترعب مستوطنيه ومؤيديه.

هل يدرك الفلسطينيون قيمة مقاومتهم، وقدر انتفاضتهم، وحجم الأمل المنوط بها، والرجاء المتعلق فيها، ومدى حب الأحرار لها، وتمسك المخلصون بها، وحرصهم على أن يكون لها شأنٌ ودور، وألا تكون مجرد عنفٍ وتضحية، بل عطاءٌ يستتبع نتيجةً، وبذرٌ يستنبت الشجرَ ويعطي الثمر، فيعملون على استمرارها وانتشارها، وصمودها وثباتها، وقوتها وشدتها، ويبتعدون عن كل ما يضعفها ويهددها، ويقلل من فرص نجاحها وعوامل استمرارها، وليس أكثر خطراً على الانتفاضة من الفرقة والانقسام، والخصومة والاختلاف، وهذا ما لا يحبه المخلصون لنا، والمؤيدون لقضيتنا، فهل نبرهم ونفرحهم فنتفق، أن نفجعهم ونحزنهم فنعمق انقسامنا، ونؤسس لخلافاتنا، ونئد بأنفسنا انتفاضتنا، ونخنق بأيدينا حلمنا.

- شهداء قطاع غزة جدولٌ يصب في نهر

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لا يتصور الفلسطينيون في قطاع غزة أنفسهم بعيدين عن الانتفاضة، أو معزولين عنها، وغير مرتبطين بها، ولا مشاركين في أحداثها، ولا صانعين لفعالياتها، ولا موجهين لها ومحددين لأهدافها، فهم قد اعتادوا المقاومة، وامتهنوا القتال، حتى غدت المقاومة بالنسبة لهم سمة حياة وعلامة رجولةٍ ودلالةَ عزةٍ وكرامة، وإشارةً على الوجود والبقاء، يرون أنفسهم فيها، ويتماهون معها، ولا يعترفون بأن الظروف تحول دون مشاركتهم الجماهيرية الواسعة، وبسط فعالياتهم الشعبية الكبيرة، إذ أن الاحتلال يقف خلف الأسلاك الشائكة، ويعسكر بعيداً عنهم بعد المنطقة العازلة، فلا يقدرون على الوصول إليه، وهو لا يقترب منهم بأشخاصه، وإنما يكتفي بإطلاق النار من بعيد، أو إغراق الغزيين بقنابل الغاز المسيلة للدموع بكثافة، التي بها وبالرصاص الحي يقتل المتظاهرين، ويتسبب في خنقهم أو إصابتهم.

لكن قطاع غزة بعيدٌ عن الضفة الغربية، إذ يفصل بينهما وبين أقرب نقطةٍ في مدينة الخليل قرابة المائة كيلو متر، إلا أنه رغم قصر المسافة فإن أحداً من سكان قطاع غزة لا يستطيع الوصول إلى الضفة الغربية إلا بموجب موافقةٍ إسرائيليةٍ مسبقةٍ، وهي في العادة لا تكون ولا تمنح، ولا يسمح لأهالي القطاع أو الضفة الغربية بالتنقل فيما بينهما أو زيارة الأقارب والمعارف، وإنما تمنح سلطات الاحتلال الإسرائيلي لسكان قطاع غزة تصاريح دخول إلى الأرض المحتلة عام 48 لمدة يومٍ واحدٍ، إذا كانت بقصد زيارة المسجد الأقصى، وهو ما باتت تمنحه في الأشهر القليلة الماضية، أو للمعاينة الطبية وإجراء الفحوصات اللازمة، كما قد تمنح تصاريح لعدة أيامٍ للتجار ورجال الأعمال أو للمرضى بقصد المبيت في المستشفى لإجراء عملية جراحية، أو لمتابعة علاج أمراضٍ غير متوفر في قطاع غزة.

قدم الغزيون في هذه الانتفاضة أقل بكثيرٍ مما قدموه في الانتفاضتين السابقتين، وأقل من شهدائهم في الاعتداءات الإسرائيلية السابقة عليه، إذ يكاد يصل عددهم مع نهايات الشهر الثاني من الانتفاضة قرابة الثلاثين شهيداً، وهم في أغلبهم من الشباب والأطفال ممن هم دون الثامنة عشرة من عمرهم، ولكن من بينهم أيضاً نساءٌ وأطفالٌ رضعٌ، وشيوخٌ وعجائزٌ وكهول، ومن فئاتٍ عدةٍ، وإن كان أغلبهم من الطلاب، إلا أن منهم عمالاً وحرفيين، وآخرين عاطلين عن العمل بسبب الحرمان والحصار.

قطاع غزة بكل سكانه وأهله، وفصائله وأحزابه، ونقاباته وتجمعاته، رغم معاناته وألمه، يأمل أن يقدم شئ إلى أهلهم وشعبهم في الضفة الغربية، لكن أملهم أن يقدموا ما يخفف ويسري، وما ينفع ويخدم، وما يكون إضافةً حقيقية ومساندةً مادية، ولهذا فهم يخرجون في مظاهراتٍ ومسيرات إلى مناطق التماس مع الكيان الصهيوني، حيث يمكن رؤيتهم من بعيدٍ أحياناً، كما يمكن قذفهم بالحجارة وإن كانت لا تصلهم فضلاً عن أنها لا تؤذيهم، بسبب بعدهم وتمركزهم خلف الأسلاك العازلة، ولكن الغزيين لا يفتأون يفتحون جبهاتٍ، ويخوضون مع العدو معارك، تشغله وتستنزفه، وتؤذيه وتكلفه.

جبهات قطاع غزة مع العدو الإسرائيلي كثيرةٌ وعديدة، وكلها ساخنة ومشتعلة، وتشهد مواجهاتٍ واشتباكاتٍ دائمةٍ، ويسقط فيها قتلى وشهداء، ويكاد القطاع كله يقع على تماسٍ مع الكيان الصهيوني، ولا يستثني البحر من المجابهة، إذ أن الحرب بينهما في البحر مستعرة، حيث تقوم الزوارق الحربية الإسرائيلية وخفر السواحل وسلاح البحرية، بحصار شواطيء القطاع كلها، وتمنع توغل الصيادين الفلسطينيين في عمق البحر قبالة القطاع، وتعتقل من يتجاوز المسافات المحددة، وقد تطلق النار عليهم فتصيبهم بجراحٍ أو تقتلهم، كما أنها تمنع أي سفنٍ أو قوارب أجنبية من الوصول إلى شواطئه.

أما الحدود البرية مع العدو فهي جبهةٌ مفتوحةٌ دائماً، والاستنفار سيدها دوماً، والحشود العسكرية على جانبها الشرقي لا تغيب، وهي حدودٌ طويلة نسبياً، إذ تمتد على طول الحدود الشرقية للقطاع، والتي تصل إلى قرابة 43 كلم، وتتاخم على مدى الحدود مستوطناتٍ وبلداتٍ إسرائيلية عديدة، وهي قريبة نسبياً من منطقة الشجاعية في القطاع، وهي منطقة مكتظة بالسكان، وقد شهدت خلال الحرب الأخيرة دماراً واسعاً، وتخريباً شديداً جراء القصف البري الإسرائيلي الشديد عليها.

كما يعتبر حاجز إيريز القريب من بلدة بيت حانون أحد أهم نقاط التماس مع العدو الإسرائيلي، وهو المعبر الرئيس للمواطنين الراغبين في السفر إلى الأردن، أو الباحثين عن علاجٍ في المستشفيات الإسرائيلية أو مستشفيات الضفة الغربية، ويشهد معبر إيريز عمليات تدقيق وتفتش قاسية ومهينة، وقد يتعرض المسافرون الفلسطينيون إلى الأذى والإساءة، وإلى الابتزاز والمساومة، بقصد التعاون معهم وتقديم المعلومات إليهم.

إلا أن حاجز إيريز يشهد الكثير من الوقفات والتجمعات والمظاهرات، ويقترب الفلسطينيون منه إلى نقاطٍ قريبةٍ جداً من الجنود الإسرائيليين، مما يتسبب في مواجهاتٍ ومظاهراتٍ يسقط في الغالب فيها جرحى وشهداء، حيث ينظم الفلسطينيون مظاهراتهم بالقرب منه، كونه النقطة التي يتواجد فيها الجنود الإسرائيليون على مدى الساعة، ويمكن رؤيتهم من بعيد، وقريباً من معبر إيريز وإلى الشرق منه وحتى الشاطئ، يوجد مناطق تماس مع مستوطناتٍ إسرائيلية متاخمة لبلدة بيت لاهيا، التي تشهد بعض الاحتكاكات والمواجهات بين الفلسطينيين وجنود العدو، ولكنها تبقى مواجهاتٌ أقل حدةً وأقل عدداً، من تلك التي تقع على امتداد الخط الشرقي بدءاً من رفح جنوباً وصولاً إلى بيت حانون شمالاً، حيث تعتبر هذه المنطقة هي الجبهة الأكثر سخونة، والأشد اشتعالاً على مدى الزمن.

الغزيون في القطاع يتطلعون بكل صدقٍ إلى نصرةِ شعبهم في الضفة الغربية، ومشاركتهم فعاليات الانتفاضة، لأنها بالنسبة لهم شرفٌ ومفخرة، والمساهمة فيها عزة، والتخلي عنها مذلةٌ وخسةٌ ومهانة، فتراهم من أجل ذلك يبحثون عن أي نقطةٍ للمواجهة، أو جبهةٍ معه مفتوحة، يناوشونه ولو كانوا أضعف منه، إذ يحملون حجراً ويحمل بندقية، وعنده من آلات القتل البشع الكثير، ومع ذلك فإنهم ينزلون إلى الجبهات، ويسرعون إلى المواجهات، وينظمون المظاهرات، ولا يبالون بمن يسقط منهم شهداء، ويعتبرون دماءهم وإن كانت نزراً يسيراً، وشيئاً قليلاً، إلا أنها بالنسبة لهم جدولاً يصب في نهر المقاومة العظيم.

- إرادة الفلسطينيين وعجز الاحتلال

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

يخطئ الاحتلال الإسرائيلي عندما يظن أن الشعب الفلسطيني قد أُعدم وسائل المقاومة والنضال، وأنه بات عاجزاً عن اجتراح وسائل جديدة وطرقاً مختلفة ليواجه صلفه، ويتحدى إجراءاته، ويتصدى لسياساته، وينتصر على التحديات التي يضعها، والصعاب التي يفرضها.

أو أنه يأس نتيجة الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية، والإجراءات العقابية، ومحاولات التحصين والعزل التي يطبقها العدو في مناطقه، والتي جعلت من كيانه غيتواً أمنياً معزولاً، محصناً بالجدران والبوابات والأسلاك الشائكة، والبوابات الاليكترونية وكاميرات المراقبة وأجهزة التنصت والتسجيل والتصوير، وعمليات التفتيش والتدقيق التي يمارسها على المواطنين الفلسطينيين، والتي تبدو في أكثرها مذلة ومهينة، وقاسية وصعبة، أمام عشرات الحواجز الأمنية التي ينصبها بين المدن والبلدات الفلسطينية، وعلى مداخل وبوابات مدنه ومستوطناته، حيث يوقف أمامها الفلسطينيين في طوابير كبيرة، ينتظرون الساعات الطويلة، قبل أن يسمح لبعضهم بالدخول، ويمنع كثيراً غيرهم من المرور، ولو كانوا مرضى أو نساءً، أو رجالاً وأطفالاً، بحجة الاحتياطات الأمنية، والإجراءات الاحترازية.

يعتقد الكيان الصهيوني أنه بإجراءاته هذه سيمنع الفلسطينيين من القيام بأي عملياتٍ مقاومة ضده، لاستعادة الحقوق، أو رداً على الانتهاكات والخروقات، أو انتقاماً من أعمال القتل والمصادرة، وصداً لسياسات الإغلاق والمصادرة، والاجتياح والاعتداء، وأنه بذلك سيكون حراً في تنفيذ سياساته، وسيمضي قدماً في قمع الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وأنه سيكون واثقاً من أحداً لن يقوَ على صده أو منعه، وأنه اتخذ من الإجراءات الاحتياطية، والخطوات الاحترازية ما من شأنه إحباط أي محاولة فلسطينية للمقاومة أو الهجوم، وأن استعداداته باتت قادرة على إجهاض أي عمليةٍ قبل وقوعها، إذ أن أجهزته الأمنية حاضرة وساهرة، ويقظة ومنتبهة، وتعمل ليلاً ونهاراً، تستقصي وتجمع المعلومات، وتتجسس وتراقب وتتابع، وتتنبأ وتتوقع، مما سيجعل من الصعب على أي فلسطيني اختراق التحصينات، أو تجاوز العقبات.

فقد نجحت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في جمع السلاح من أيدي الفلسطينيين، وجردتهم من أي سلاحٍ غير شرعي استناداً إلى اتفاقية أوسلو، التي تجيز لأجهزة السلطة الرسمية فقط حمل واقتناء الأسلحة المسموحة والمبينة الأنواع، والمعروفة القدرات والمميزات، فلم يعد في أيدي الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية أسلحة نارية، تمكنهم من المقاومة أو القيام بأعمالٍ عسكرية تهدد الكيان وتضر أمنه، وتلحق به خسائر في الأرواح والممتلكات.

كما أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مناطقها على السكان الفلسطينيين، ومنعت دخولهم إليها، وعقدت تنقلهم، وأصبح جميع حملة الهوية الخضراء، وهم سكان الضفة الغربية، ممنوعين من الدخول إلى مناطق الكيان الصهيوني، فالحواجز المنتشرة تمنعهم، والإجراءات الأمنية تحد من أعدادهم، والتجهيزات والمعدات الموجودة بحوزة الأجهزة الأمنية تستطيع أن تكشف نسبياً عن كثيرٍ من الأسلحة والممنوعات، والتصاريح المسموحة لبعضهم قليلة، ومن الصعب الحصول عليها، وقد يخضع بعضهم للمساومة والابتزاز، خاصة ذوو الحاجات وأصحاب الضرورة الملحة.

كما قامت المخابرات الإسرائيلية باعتقال المئات من المطلوبين والنشطاء والمشتبه بهم، من مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، ممن تظن أن لهم ميولاً للمقاومة، وعندهم رغباتٌ واضحة في تنفيذ عملياتٍ عسكرية، وأنهم يخططون ويستعدون، ويتدربون ويتأهلون، ويتصلون ويتواصلون، وتصلهم مساعداتٌ وأموالٌ، ولديهم مراجع وعندهم مهمات، وساعدها في ذلك قيام أجهزة أمن السلطة باعتقال آخرين ومحاكمتهم بتهمٍ مختلفة، الأمر الذي أدى إلى نضوب في العناصر المقاومة، وانحسار في قدراتها الميدانية على الأرض، وتراجع في أدائها العام.

كما نفذ العدو الإسرائيلي بحق المقاومين وذويهم إجراءاتٍ عقابية وانتقامية قاسيةً جداً، فهدم بيوتهم، ورحل أسرهم، وحكم على المنفذين بأحكامٍ بالسجن قاسية، وغرّم أسر الأطفال وراشقي الحجارة غراماتٍ مالية عاليةً جداً، وتتبع المحرضين والحاضنين، والداعمين والممولين، وضيق عليهم، فأغلق مؤسساتهم، وصادر أموالهم، ومنعهم من مزاولة أعمالهم، وفرض على السلطة الفلسطينية أن تنوب عنه في ملاحقة ومراقبة المطلوبين والمشتبه بهم.

ظن الإسرائيليون أن إجراءاتهم قد نجحت، وأن سياستهم المعتمدة آتت ثمارها المرجوة، وأن المقاومة قد يأست فعلاً، وأن رجالها قد أحبطوا، نتيجة الإجراءات الأمنية القاسية المتبعة، أو بسبب الإخفاقات المتكررة، والفشل الذي منيت به مجموعاتهم العسكرية، ما جعل قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية يعتقدون أن الضفة الغربية أصبحت منطقة آمنة، خالية من السلاح، ولا وجود فيها لمجموعاتٍ مقاومة، ورفعوا تقاريرهم إلى قيادتهم السياسية ليطمئنوهم أن سكان الضفة الغربية باتوا تحت السيطرة، وأن عناصر الخطر وفتائل التفجير قد نزعت كلها.

الفلسطينيون الذين قاوموا بالحجر والمدية والسكين، وبالمعول والفأس وقضبان الحديد، ثم زنروا أجسادهم بالمتفجرات، وفجروا أنفسهم وسط الصهاينة، واستطاعوا أن يعملوا كمائن، وأن يزرعوا العبوات، وأن يلقوا القنابل، ثم نجحوا في الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين، وأوقعوا في صفوفهم خسائر عديدة، وتمكنوا من أسر جنودٍ ومستوطنين، ونجحوا في إخفائهم والابتعاد بهم، وعجز الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية عن الإمساك بهم، أو تحريرهم من أيدي خاطفيهم.

اليوم يجترحون في انتفاضتهم الثالثة وسائل للمقاومة جديدة، وسبلاً للغضب والثورة مختلفة، أرعبت الإسرائيليين وأخافتهم، وأربكتهم وأقلقتهم، فانفضوا من الشوارع، وابتعدوا عن الأرصفة والممرات، وتوقفوا عن التجمع والتجمهر، وامتنعوا عن الجلوس في المقاهي والاستراحات العامة، المطلة على الشوارع والطرقات السريعة، ولم يعودوا يستخدمون “الأوتو ستوب”، فلا يركبون سيارةً عابرة، ولا يقبلون بمساعدةٍ تعرض عليهم، لتقلهم إلى أماكن عملهم، أو منها إلى بيوتهم، وأصبحت كل سيارةٍ أو حافلة تسير بسرعةٍ، مقبلةً أو مدبرة، وكل جرافةٍ أو دراجة، وأي آليةٍ متحركة أخرى، يقودها فلسطيني، عربي الوجه والسحنة، وكأنها تهم بدهسهم، وتنوي قتلهم وسحق أجسادهم.

أصبح كل فلسطيني في عيون الإسرائيليين مشروع مقاوم، واحتمال استشهادي، فقد يحمل سكيناً أو مدية، أو يخفي مسدساً أو قنبلة، أو يبدي استعداداً للانقضاض بنفسه، والعراك بجسده، والاشتباك بيديه، ثأراً وانتقاماً مما يرتكبه الإسرائيليون بحقهم.

الفلسطينيون لن يعدموا وسيلةً للمقاومة، ولن يشكوا عجزاً عن المواجهة، ولن يتوقفوا عن التفكير والإبداع، بل سيقاتلون بكل ما يملكون، وبما يقع تحت أيديهم ويتوفر لهم، ولن يدخروا عن المعركة شوكةً ولا إبرة، ولا سكيناً ولا مدية، ولا سيارةً ولا عربة، ولا دعاءً ولا كلمة، ولا حرفاً ولا طلقة، ولا صاروخاً ولا قنبلة، وستمضي انتفاضتهم، وستتواصل مسيرتهم، وسيتحقق نصرهم، ولم يكون إلا ما كتب الله لهم، نصراً عزيزاً أو شهادةً كريمة.

- البسالة الشعبية الفلسطينية وغياب القيادة الميدانية

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

هل من المنطق السليم العاقل والواعي، والوطني المخلص المسؤول، أن تترك الانتفاضة دون قيادة تنظمها وتخطط لها، ودون مرجعيةٍ وطنيةٍ تحميها وتدافع عنها، ودون إطارٍ وطنيٍ جامعٍ موحدٍ ومتفقٍ عليه ومتجانسٍ يصونها ويحفظها، ويردفها ويدعمها، ويتحدث باسمها ويستثمر إنجازاتها، ويعبر عن حاجاتها ويتصدى لتحقيق مطالبها، ويضمن استمرارها ويحقق نجاحها ويسعى إلى سلامتها، فهذه من البديهيات التي علمتنا إياها الانتفاضتان السابقتان، وهي من سنن النجاح ونواميس النظام، التي تلتزم بها الثورات، وتحافظ عليها الشعوب خلال مسيرة نضالها وسنوات مقاومتها، فقد كانت في الانتفاضات التي سبقت قيادة موحدة وإن لم تلتزم بعض القوى بها، إلا أن التنسيق كان يكملها، والتنظيم كان يوحدها ويعوض النقص الذي لحق بها.

ليس من المنطق أبداً أن تبقى الانتفاضة هكذا هملاً، لا رأس لها ولا رئيس، ولا قائد لها ولا مسير لفعلها، ولها أكثر من خطاب وعندها أكثر من فلسفة، تتخبط وتتعثر بخطى بعضها وفعاليات قواها، التي لا يجمعها إطار ولا توحدها هيئة، وإنما تحركها همم الشباب، وعزائم الرجال، وتضحيات النساء، وتسير بقوة الدفع الذاتي الشعبي المخلص، بعيداً عن الخطط البعيدة المدى والمشاريع ذات الجدوى الوطنية، إذ من يخطط لهم ويفكر عنهم، ومن ييسر أمرهم ويستطلع لهم، ولكن الحقيقة المرة أنه لا يوجد من ينير دربهم، أو ييسر عملهم، ويستطلع لهم، ويزودهم بالمعلومات والبيانات، ويحذرهم من الأخطاء والسقطات، والعثرات والزلات، فقد شغلهم تكريس الخلاف وتعميق الانقسام، وتحقيق المصالح عما هو أحق وأوجب.

تعلم القوى والأحزاب الفلسطينية وهي كثيرة، أن الشعب مهما كان قوياً فهو في حاجةٍ إلى قائدٍ ومسيرٍ، وأنه مهما كان باسلاً وشجاعاً فإنه يبقى في حاجةٍ إلى هيئةٍ توجهه وتشرف عليه، وإن لم يكن هذا هو دورهم والمهمة الملقاة على عاتقهم، فما هي مهمتهم، وما هو دورهم، أتراهم يفكرون فقط في تجيير المكتسبات، وتبني الشهداء والعمليات، والتغني بالانتصارات والإنجازات، وتجييرها سياسياً لصالحهم، وتوظيفها حزبياً وفئوياً بما يخدم أهدافهم الخاصة وغاياتهم الضيقة المحدودة.

القوى والفصائل الفلسطينية تعلم أن العدو الإسرائيلي فرحٌ لعجزهم عن استيعاب الانتفاضة، ومسايرة الشعب والمشي معه، إذ أن الشعب قد سبقهم وتجاوزهم، وإن كان قد انتظرهم علهم يلحقون ويعوضون، لكنهم ارتكسوا وانشغلوا فلم يعد فيهم أملٌ ولا منهم رجاء أن يدركوا ما فاتهم، ويعوضوا ما قد سبقهم، وهذا ما يدركه العدو ويعلمه، وما يسعى إلى تكريسه واستمراره، إذ أن من صالحه أن تبقى الانتفاضة عمياء لا عيون لها، وتائهة لا دليل لها، وفوضى لا منظم لها، وعنفاً لا سياسة مرجوة منها.

إن أكثر ما يلفت النظر في انتفاضة القدس الثانية أنها انتفاضةٌ شعبيةٌ عفويةٌ، يقودها الشباب وتحركها العاطفة، ويدفعها الصدقُ ويبلغها الإخلاصُ والتفاني، والتجردُ والتوكلُ، أمانيها التي انطلقت من أجلها، ويحقق لها الأهداف التي وضعتها لنفسها، ولولا بركةُ الأرض وصدقُ الشعب ونبلُ الغاية وطهرُ الهدف ما كان لهذه الانتفاضة أن تمضي، وأن تشق طريقها رغم الصعاب، وأن تتصدى للتحديات وتغالبها وتحاول الانتصار عليها، مع أن الظروف تعاكسها ولا تساعدها، والمحيط حولها يلتهب ويشتعل، وبغيرها من همومه ينشغل، إلا أن شعب الانتفاضة العظيم قرر أن ينهض وينتفض، ويثور وينعتق، طالباً حريته، وساعياً لاستعادة حقوقه، وضمان أمنه ومستقبله، وإن تأخرت قيادته، وتراجعت فصائله.

مضى شهران على بداية الأحداث في الضفة الغربية، التي آلت بعد أيامٍ قليلةٍ من اندلاعها إلى انتفاضةٍ شعبية، وخلفت قرابة التسعين شهيداً، وأكثر من ألف معتقل، ومثلهم أكثر من الجرحى والمصابين، وعشرات البيوت المدمرة ومناطق كثيرة محاصرة ومغلقة، وما زال الشعب ماضٍ في انتفاضته، ومصرٌ على ثورته، وثابتٌ على مواقفه، ومتطلعٌ إلى أهدافه، وهو يقدم ولا يبخل، ويخوض ولا يتردد، وينفذ ولا يخاف، ويواجه ولا يجبن، ولا ينتظر من غبر الله مثوبةً، ومن غير شعبه وأمته رضا، ولا يتوقع من أحدٍ أجراً أو مقابل، أو رفعةً في الحياة وذكراً بين الناس، إنما همه أن يرفع الظلم والجور، وأن يحقق النصر وبنجز العودة، وأن يطهر مقدساته، ويفتح أبواب مساجده والأقصى أمام المصلين.

عجيبٌ أمر هذه القيادة وهذه القوى الفلسطينية جميعها، كأنها عمياء لا ترى، أو بلهاء لا تعي، أو مضطربة فلا تحسن التفكير، ولا تنتهز الفرص ولا تقتنص المكرمات، فقد أكرمها الله بهذا الشعب، وتفضل عليها بهذا الجيل، القوي الشجاع المضحي المبادر الهمام المقدام، الذي تفتخر به الأمم، وتتيه بروعته الشعوب، وتتغنى ببطولته الأجيال، فما يقدمه أكثر مما نتصور، وأعظم مما نتخيل، إذ أن من بيوتهم وأسرهم من قدمت أكثر من شهيدٍ ومعتقلٍ وجريحٍ، فالشقيق يلحق بشقيقه، ويصر على الثأر له والانتقام من أجله، وكذا الأخت والأم، والأب والابن، يلحقون بالشهداء ويسيرون على دربهم، ويكونون مثلهم وينالهم فضل من سبقهم، ولكن قيادةً عاجزةً عن المواكبة، وخائفة من المتابعة، أحرى لها ألا تكون، وأفضل لها أن تنسحب، وأشرف لها أن تعترف وتقر بعجزها، وتطلب من غيرها القادر أن يتقدم ويمضي، ليحمل الراية ويقود المسيرة.

رغم ذلك فإن قيادةً للانتفاضة لم تتشكل بعد، ورؤيةً مشتركة لم تتبلور، وطريقاً واضحاً لم يرسم، وأهدافاً مشتركة لم تطرح، وغاياتٍ مأمولة لم تحدد، وما زالت القوى والفصائل الفلسطينية مضطربة ومرتبكة، لا تعرف ماذا تفعل ولا كيف تواجه، تنتظر طارئاً يقع أو تتوقع حدثاً ليس من صنعها، يدفعها أو يغير من حالها، رغم أن كثيرين يقولون دعوا الانتفاضة تمضي على بركة الله وبتوفيقه، ولا تتدخلوا فيها فتفسدوها، ولا تخططوا لها فتخذلوها، ولا تساعدوها فتخونوها، ولا تستغلوا إنجازتها فتحرفوها عن حقيقتها النقية، وجوهرها الصافي الواضح والصريح.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 68 / 2165355

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165355 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010