الثلاثاء 1 أيلول (سبتمبر) 2015

هوامش حول سد النهضة

الثلاثاء 1 أيلول (سبتمبر) 2015 par مصطفى الفقي

أشعر أحياناً بأننا قد تعودنا على موضوع «سد النهضة» كما أن أهميته في العقل المصري قد بدأت تتراجع، وهنا مكمن الخطورة، الأمر ليس بالبساطة التي تحول إليها الموضوع برمته، وأنا أعلم أن الأمر بيد رئيس البلاد، وهي أيد أمينة وواعية، لكن القلق ينتابني من فعل عامل الزمن في الأمر كله، إذ إن الوقت في غير صالحنا، فبناء «السد» ماضٍ على قدم وساق والمفاوضات بشأنه ناجحة أحياناً، متعثرة دائماً، لذلك فإن الأمر يحتاج إلى مراجعة عاجلة وقرارات حاسمة مع رؤية عادلة.

فنحن لا ننكر على أشقائنا الإثيوبيين حقهم في التنمية، وعليهم أيضاً أن يسلموا بحقنا في مياه «النهر» لأن أهمية مجراه متساوية من «المنبع» إلى «المصب»، والعبث بجغرافيا الطبيعة يحتاج توافقاً في الرأي كلما اقتربنا من «المنبع» لأن ذلك يؤثر على دول أخرى خصوصاً «دولة المصب»، وهنا تجدر الإشارة إلى الملاحظات التالية:
* أولاً: إن هاجس المياه بيننا وبين «الأحباش» تحديداً ليس جديداً، وعندما وجه «محمد علي» مؤسس الدولة الحديثة حملاته المتعاقبة تجاه «منابع النيل» كان يدرك أن الخطر يمكن أن يأتي ذات يوم من ذلك الاتجاه، وعندما كان «عبدالناصر» يدلل الإمبراطور «هيلاسلاسي»، رغم الخلاف الفكري والتفاوت العمري بينهما، ذلك لأنه كان يدرك أن عرش «الأسد» في «أديس أبابا» قد ورث مخاوف تاريخية وحساسيات دائمة تجاه «مصر»، ولم يكن «عبدالناصر» حريصاً على علاقة طيبة ب«الأحباش» بسبب ورقة «الأقباط» كما يزعم البعض لأن ذلك شأن داخلي وأمر وطني لا يعني إلا المصريين وحدهم مهما اختلفت دياناتهم أو تباينت معتقداتهم، وما كانت دعوة «عبدالناصر» لامبراطور «إثيوبيا» للمشاركة في وضع حجر أساس «الكاتدرائية المرقسية» في «العباسية» تودداً دينياً بقدر ما كانت احتواء سياسياً، لذلك فإن قضية «مياه النهر» مثارة منذ سنوات طويلة ولكنها لم تنفجر بشكل حاد إلا في السنوات الأخيرة، وعندما وقع «زكريا محيي الدين» اتفاقية «مياه النيل» مع «السودان» عام 1959 بشأن حصص المياه فإن ذلك كان تحسباً لما هو مقبل خصوصاً مع الشروع في بناء «السد العالي».
* ثانياً: إن «إثيوبيا» لا تقف وحدها فيما تمضي فيه حالياً، بل إن هناك من يؤازرها في «إفريقيا» وخارجها، وليست الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون بعيدة عن ذلك، كما أنني أظن، وليس كل الظن إثماً، أن «إسرائيل» لاعب رئيس في هذا السباق، ولعلنا نضع الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي «باراك أوباما» ل«إثيوبيا» بأنها تحتوي على إشارة إلى دعم «واشنطن» ل«أديس أبابا» في كافة توجهاتها بما في ذلك قضية «سد النهضة» التي تحولت لدى «الإثيوبيين» إلى قضية وطنية ذات بعد شعبي لا يقارن إلا بالمشاعر المصرية عند بناء «السد العالي».
لكن الفارق بين الحالتين أن بناء «مصر» ل«السد العالي» لم يكن ضاراً بغيرها لأنها «دولة مصب» بينما السد «الإثيوبي» يحمل احتمالات بضرر مباشر على حصة المياه المصرية إلى جانب مخاطر أخرى، وذلك فارق جوهري بين الحالتين لمن يحاول المقارنة بينهما من دون وعي.
* ثالثاً: لا أظن أن «الدولة العبرية» بعيدة عن قضايا المياه في المنطقة بل هي التي وضعت في شعار تأسيسها العبارة الشهيرة (دولتك يا «إسرائيل» من الفرات إلى النيل)، وهي تبحث دائماً عن موضع قدم في «حوض نهر النيل» وقد أثار «بيغن» ذلك الأمر مع الرئيس الراحل «أنور السادات» في مفاوضات السلام مع «مصر»، ولكن الأمر كان مستحيلاً لأن «النهر» ملك ل«دول الحوض» الذين جمعتهم الجغرافيا آلاف السنين، وقد ظلت «إسرائيل» تنفث سمومها في الآذان الإفريقية قائلة لهم: (إننا عشنا في القرن العشرين عصر البترول العربي والثروة التي خرجت من الأرض، والآن جاء دوركم لتستفيدوا من المنحة التي تهبط عليكم من السماء وهي المياه)! وحاولت «إسرائيل» دائماً أن تزرع الشكوك لدى دول «حوض النهر» عند «المنبع» خصوصاً إثيوبيا «ثم فوجئنا بمتحدث رسمي «إسرائيلي» يعرض وساطة بلاده لحل أزمة «سد النهضة»، فهم يريدون توقيعاً لهم على «وثائق النيل» بحيث يصبحون طرفاً في خلافاته ومشكلاته ثم مزاياه وعوائده، إنه «العقل الصهيوني» التقليدي يطل علينا بين الحين والآخر، وتشير الأنباء إلى أن «إسرائيل» «تقدم المعونة الفنية والخبرة التقنية في بناء «سد النهضة» ليس حباً في «إثيوبيا» لكن لإضعاف الجارة الكبرى «مصر»، وخلق المشكلات أمامها وشد انتباهها إلى الجنوب بدلا من التفرغ للصراع العربي «الإسرائيلي»، ومشكلات «الشرق الأوسط» فضلاً عن الحلم «الإسرائيلي» الدائم بالحصول على حصة من مياه النيل عبر «سيناء»، وهو أمر دونه عقبات سياسية وقانونية وأمنية لا يمكن تجاوزها، ولكنها «إسرائيل» التي لا تكل ولا تمل ولا تيأس!
* رابعاً: تركت «القاهرة» ملف «مياه النيل» في عصر الرئيس الأسبق «مبارك» في أيدي الفنيين بوزارة الري، وكانت النتائج كما نشهدها الآن، لأن القضية ليست فنية خالصة، لكنها سياسية بالدرجة الأولى، فالمناخ العام الذي يربط دول «حوض النيل» برباط الجوار الإفريقي والشراكة في «مياه النهر»، يمكن أن يكون مقدمة لحل النزاعات، والوصول إلى وضع يرضي جميع الأطراف عند «المنبع» و«المجرى» و«المصب»، لكن التدخلات الأجنبية والحساسيات التاريخية تمارسان تأثيراً سلبياً على الأمر برمته، ومع ذلك تبقى القضية سياسية بالدرجة الأولى، حتى أنه تردد أن إنشاءات «سد النهضة» تبدو أكبر بكثير من حاجة «إثيوبيا» للكهرباء، وكان يمكن أن يستعاض عنه بسدود صغيرة لتوليدها، ولكن الأهواء السياسية والمنافسات التاريخية لعبت دورها في هذا الشأن، ولو أننا فكرنا في شبكة تنموية تضم «مصر» و«السودان شماله وجنوبه» و«إثيوبيا» و«أوغندا» وغيرها من دول «حوض النهر» لتغير الأمر تماماً وأصبحنا أمام مشهد مختلف بكل المعايير حتى تصبح قضية «مياه النهر» جزءاً من رؤية شاملة للدول الشريكة في حوضه وربما نصل في هذه الحالة إلى مكسب مشترك للجميع ومن دون أن يخسر أحد في ظل أجواء من الصداقة الإفريقية وحسن الجوار مع النوايا الخالصة والرغبة في التعايش المشترك، ولا يمكن أن ننظر إلى قضية «مياه النهر» باعتبارها قضية موسمية تحل علينا أحياناً في الأزمات ثم نغفلها في الظروف العادية، ولقد فطن أشقاؤنا الأفارقة لتلك الظاهرة وبرزت أزمة ثقة وفجوة خلاف لابد من أخذهما في الاعتبار.
* خامساً: ليس أمام «مصر» إلا خيار الدبلوماسية الذكية والدفوع القانونية لمواجهة الموقف الإثيوبي في إطار من التفاوض المستمر الذي يقوم على أسس موضوعية ولا يكتفي بمحاولات شكلية لتلطيف الأجواء وترميم العلاقات، إذ لابد من البحث في الجذور والغوص في أعماق المشكلات بدلاً من اللقاءات السطحية والابتسامات المتبادلة ونشر روح التفاؤل من دون مبرر! لأن القضية أكبر من ذلك وأخطر، إنها قضية الشعوب، فالمياه هي الحياة والأمم تحارب لأمرين الأرض والماء، وعلى «مصر» أن تستعين بكل خبراتها، وأن يستمع المسؤولون فيها إلى وجهات نظر كل المختصين مهما اختلفت مع وجهة النظر الرسمية لأنها قضية الدولة المصرية بتاريخها العريق، وليست قضية الحكومة المصرية بسياساتها العابرة.
هذه كلمات مخلصة نبغي بها تكوين رؤية صحيحة لأزمة «سد النهضة» التي لا يبدو عامل الزمن فيها مواتياً لنا، بل لابد من تحرك دولي سريع لدى المنظمات الدولية السياسية أو الاقتصادية فضلاً عن البنوك المانحة والبدء في حوار مع القوى الكبرى بدءاً من «واشنطن» إلى «بكين» مروراً بالعواصم الأوروبية ذات التأثير على أطراف الأزمة، آملين أن يؤدي ذلك إلى توقف الدعاوى التاريخية «الإثيوبية»، لأنهم قالوا لأطفالهم عبر السنين إن النهر خائن و«مصر» تسرق المياه، وغير ذلك من أراجيف «الفولكلور» الشعبي داخل المجتمع «الإثيوبي».
وهنا نؤكد حرصنا الشديد على علاقات تاريخية متينة مع أشقائنا في دول الحوض شريطة أن يبادلونا نفس الحرص، فالحياة مشتركة والنهر واحد ويكفي الجميع، لأن كمية الهدر في مياهه تزيد عشرات المرات على حجم الاستهلاك لدوله، إنها قضية سياسية بالدرجة الأولى!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2178018

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع مصطفى الفقي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178018 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40