الجمعة 21 آب (أغسطس) 2015

الوطن وخدمة العلم

الجمعة 21 آب (أغسطس) 2015 par رغيد الصلح

تشهد المنابر السياسية والفكرية والثقافية مناقشات مفيدة في بعض الدول العربية حول مسألة الأمن في المنطقة. وفي خضم هذه المناقشات، تتصاعد الدعوة إلى تطبيق الخدمة الإلزامية. ولكن البعض يعتقد أن هذه الدعوة تتعارض مع مبادئ الإصلاح السياسي والاجتماعي ومع أنظمة المشاركة والديمقراطية. ولا يحتاج المرء إلى التفتيش كثيراً عن أوجه التعارض بين جانب من جوانب أنظمة المشاركة والديمقراطية، من جهة، وبين التجنيد الإلزامي، من جهة أخرى، إذ إنه بالفعل هناك شيء من التعارض بين الاثنين. وهذا التعارض يشكل مبرراً لإبداء تحفظات على فكرة التجنيد الإلزامي، أو خدمة العلم، كما أطلق عليها بعد إدخال تعديلات أساسية عليها. ولكن التعارض الجزئي لا يبرر الوقوف موقفاً مطلقاً من خدمة العلم، بل تطبيقها على نحو يعزز فوائدها. وإذا أردنا أن نفيد من تجارب الآخرين أي تجارب الديمقراطيات القديمة في هذا المضمار، فعلينا أن ندقق في هذه التجارب وأن نختار فوائدها الحقيقية وليست المفترضة.

إن الذين أيدوا التجنيد الإلزامي ليسوا كلهم شيئاً واحداً، ولم يقبلوا به لنفس الأسباب والغايات. إن التجنيد الإلزامي هو أداة وليس هدفاً. إنه سياسة تتبعها الحكومات من أجل تحقيق أهدافها العامة. وهذه الأهداف تتغير من حكومة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر. كذلك فإن الذين يعارضون التجنيد الإلزامي لا يعارضونه دوماً من باب الحرص على المبادئ الديمقراطية ولكن لأسباب أخرى. فهل الذين عارضوا التجنيد في الديمقراطيات القديمة فعلوا ذلك التزاماً بالمبادئ الديمقراطية؟ علاوة على ذلك، هل هناك من وسيلة لتطبيق نظام للخدمة الإلزامية يحصن الديمقراطية ولا يضعفها أو يمهد لإلغائها؟
فخلال الحرب العالمية الأولى، التي مر على اندلاعها أكثر من قرن من الزمن، عارض الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون التجنيد الإجباري عندما اقترحه بعض أصحاب الرأي والقرار من الأمريكيين. لكن الرئيس الأمريكي لم يذهب بعيداً في موقفه هذا بل وجد أن الذين استجابوا إلى دعوات التطوع والتعبئة التي نظمتها السلطات الأمريكية لم يتجاوزوا 73 ألف متطوع بينما أملت الإدارة الأمريكية في حمل مليون أمريكي على التطوع في القوات المسلحة! عندها وجد الرئيس الأمريكي أنه لا مفر من اعتماد نظام التجنيد الإلزامي، فوافق عليه مع العمل على إدراجه في إطار رؤية دولية شاملة تقر بحق الأمم في تقرير مصيرها وتشدد على فكرة المساواة بين الأمم بما يحد من هيمنة الدول القوية على الدول الصغيرة والمحدودة القوة.
وفي نفس الفترة كانت النخبة الحاكمة في بريطانيا تعارض التجنيد الإلزامي لأسباب شتى. وكان من الأسباب المهمة وراء هذا الموقف، أن السلطات المعنية في البلدين كانت تستطيع الاستعانة في حروبها بجيوش المستعمرات. وتأكيداً على أهمية هذا العامل، تقول إحصاءات إن عدد المجندين في الجيش الهندي الذي كان يعمل بإمرة الحكومة البريطانية فاق العدد الذي كان موجوداً قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن بعد أن اشتدت الحرب وتراكمت ضغوط دول أوروبا الوسطى على الحلفاء وبات عديد القوات البريطانية غير كاف لاحتواء الخطر العسكري الألماني، طبقت لندن نظام التجنيد الإلزامي ضماناً للانتصار على ألمانيا وحلفائها.
في فرنسا كان الوضع مختلفاً عن أوضاع الحليفتين إذ إن الفرنسيين هم أول من طبق التجنيد الإلزامي. وبواسطة هذا النظام تمكنوا خلال نهاية القرن الثامن عشر من حماية استقلال فرنسا والجمهورية الفرنسية من غزو الدول الأوروبية الكبرى. بيد أن ما طبقته الحكومة الفرنسية في فرنسا، حرمته هي والحلفاء على ألمانيا في معاهدة السلام التي وقعت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. ولسنا نغالي إذا قلنا إن السياسة التي اتبعتها القوى المنتصرة في تلك الحرب تتكرر مرة أخرى مع العرب، وذلك بغرض تمكين «إسرائيل» من التفوق الساحق على مجموع الدول العربية. وترويجاً لهذه السياسة يسعى الساعون إلى فرضها على الدول العربية إلى إلباسها ثوباً أخلاقياً بالإيحاء أن الارتقاء بالقوة العسكرية العربية يمثل خطراً على المستقبل الديمقراطي في المنطقة العربية. إذا كان الأمر كذلك، فكيف تبرر القوى الدولية المساندة ل«إسرائيل» تطبيقها للخدمة الإلزامية خلال الحربين العالميتين؟ بل وكيف تبرر قوى اليسار التي كانت تعارض بقوة التجنيد الإلزامي قبل وحتى في مطلع الحرب ثم موافقتها عليه بعد أن شن النازيون عدوانهم على الاتحاد السوفييتي؟ يعزو البعض هذا التغيير إلى الأخطار الجسيمة التي جسدتها النازية والفاشية على المجتمع الدولي، والى أنه لولا التجنيد الإلزامي لانتهى الأوروبيون إلى خدمة العلم العنصري بدلاً من خدمة الإعلام الديمقراطية. ولكن من المستطاع القول هنا إن “اسرائيل” تمثل اليوم في المنطقة العربية ما كانت تمثله الهتلرية في أوروبا خلال الثلاثينات والأربعينات وإن إجهاض المجهود الحربي العربي يخدم استمرار الصهيونية العنصرية. فضلاً عن ذلك فإن الضغط على الدول العربية من أجل تخليها عن التجنيد الإلزامي، كما حدث في لبنان خلال العقد الماضي، استند إلى تقييم غير متفق عليه لهذا النظام.
فهناك اليوم دراسات عديدة تبين أن «الخدمة» لا تتنافى مع الديمقراطية ومع التنمية ومع حقوق الإنسان. بين هذه الدراسات، دراسة حديثة يقول فيها انتونيز ادامز، أستاذ الاقتصاد اليوناني، إن خدمة العلم هي في الحقيقة مطلب مرجح لدى الناخبين في النظم الديمقراطية لاعتقادهم أنها تفيد بلادهم. فالناخب الديمقراطي هو عادة كما تقول الدراسة أقرب إلى التفكير والسلوك الجماعيين وهذا ما يجعله ميالاً إلى «الخدمة». وتعزو الباحثة مارغريت ليفي، في دراسة حول الوطنية والمعارضة، ميل الناخب الديمقراطي إلى خدمة العلم إلى اعتقاده بأنها أقل كلفة على الدولة والمجتمع من نظام التطوع. كذلك خلافاً للرأي القائل بأن «الخدمة» تشجع الانقلابات، يلاحظ جوردون بولوك في كتابه «الأوتوقراطية» أن نظام «الخدمة» الذي يفرض أنظمة مركبة للتدريب والتنظيم والإدارة، يعرقل الانقلابات العسكرية ولا يسهلها. ولذلك يقول بولوك في كتابه إن بعض الحكومات التي تعاني عجزاً ديمقراطياً، لجأت إلى «الخدمة» لكي تأمن إخطار الانقلابات العسكرية. ويستند هؤلاء، ومعهم العديد من أهل الفكر والقرار في الديمقراطيات القديمة إلى نظرة الفيلسوف السويسري الشهير فاتل الذي قال في كتابه «قانون الأمم»، أن مقابل كل ما يعطيه الوطن إلى المواطن، يترتب عليه/ عليها أن تبادله العطاء فيساعد على حمايتها من التحديات حتى تتمكن من ضمان حقوقه وحماية أمنه واستقراره وعزته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2180646

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2180646 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40