الثلاثاء 7 تموز (يوليو) 2015

العقائدية السياسية والبراغماتية السياسية

الثلاثاء 7 تموز (يوليو) 2015 par د. عبد الاله بلقزيز

عند كلِّ تمييزٍ بين منظومة الأحزاب العقائدية، القائمة على مبدأ إيديولوجي مؤسِّسٍ وحاكم، ومنظومة الأحزاب البراغماتية، المستندةِ إلى مبدأ المصلحة، ثمة محاذير عدّة ينبغي الإشارة إليها؛ وأوَّلُها تَجَنُّب التعميم والفصلِ المطلق بين المنظومتين في ممارستهما السياسة. ومنها، ثانياً، الحاجة إلى الممايزة، داخل الأحزاب العقائدية، بين من يقوم منها على عقيدةٍ مدنية ومن يقوم على عقيدةٍ دينية. ثم منها، ثالثاً، حاجةٌ نظير إلى الممايزة، داخل الأحزاب البراغماتية، بين فئتيْن منها لا تعني المصلحةُ عند الواحدة منهما ما تعنيه عند الأخرى، حيث يقودهما الاختلاف في فهم المصلحة وتوسُّلِها إلى نتائج مختلفة - بل متعارضة - في العمل السياسي.
ينبغي، في المسألة الأولى، أن نسجّل حقيقةً لا تتبيّن كثيراً في القراءة الماكروسياسية للأحزاب، وعند تصنيفها إلى أحزاب عقائدية وأخرى براغماتية، ولا تَقْبَل الإدراك إلا حين التدقيق في ما وراء خطوط الفصل بينهما. والحقيقةُ التي نعني (هي) أنّ في جوف كل فئةٍ من فئتيْ الأحزاب تلك ما في جوف الأخرى، حتى وإن قَلَّ حجمُه أو شأنُه. وبيانُ ذلك أن الأحزاب العقائدية ليست عن المصلحة بمَبْعَد، بمقدار ما إن الأحزاب البراغماتية ليست مجرَّدة، تماماً، من الوازع الإيديولوجي وإن هي نجحت في تقنيعه وطمسه. وينجم من هذا أن علينا أن نتخطى خطوط الفصل بين النموذجيْن لنقرأ بعضَ ما بينهما من صلات الاشتراك والتداخل، ممّا يدخل في باب السّمات العامّة للحزبية.
حين نقول إن الحزب العقائدي هو الذي يَنْحكم تفكيرهُ وسلوكُهُ السياسي بمبدأ إيديولوجي، فليس لذلك أن يعنيَ، حكماً، أن مشروعَه السياسي لا يقوم على مصالح؛ إذْ لا حزبية تمتكن من دون مصالح تبرّرُها، وإنما تنشدُّ المصلحةُ عنده إلى المبدأ العقَدي الذي يؤسِّسها، فلا يَنْظُر إليها بما هي مبدأُ السياسة والعمل السياسي، بل بما هي تصريفٌ لمبدأ أعلى منه يُشْتَقّ البرنامجُ السياسي والعملُ السياسي. ولكن ما إن يصيب المبدأ الإيديولوجيَّ شرخٌ ويتعطّل، حتى يجنح الحزب العقائدي للبراغماتية. ماذا حصل للحزب الشيوعي الصيني، بعد رحيل ماوتسي تونغ، وماذا حصل للأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر «الاشتراكي»، غير هذا؟ وحين نقول إن الحزب البراغماتي هو القائم عمرانُهُ السياسي والتنظيمي على مبدأ المصلحة، فلا شيء يدعو إلى الاعتقاد أن لا إيديولوجية له يستند إليها؛ وآيُ ذلك أن الأحزاب الليبرالية في الغرب أكثرُ تلك الأحزاب البراغماتية عدداً. ولكن من قال إنها تخلّت، يوماً، في عزّ براغماتيتها، عن الإيديولوجيا الليبرالية (في طبعتها الاقتصادية خاصة). غير أن براغماتيتها مطمئنة إلى أنه لا خطر يُحْدق بعقيدتها الليبرالية. وإن حصل وأحدقَ بها - نتيجة تناقضات النموذج الليبرالي في التنمية - لا تتحرّج براغماتيتُها في الذهاب إلى حدود استعارة بعض قيم نموذجها النقيض (الاشتراكي) وتوطينه فيها؛ على نحو ما شهدنا صوراً منه في القرن العشرين: منذ الأزمة الاقتصادية العالمية الأولى في العام 1929، حتى الأزمة المالية العالمية في العام 2008، مروراً بنموذج دولة الرعاية الاجتماعية.
ينبغي على النحو نفسِه، في المسألة الثانية، أن ندقِّق قليلاً في معنى الأساس العقَدي الذي تقوم عليه الأحزاب العقائدية. من النافل القول إن العقائد سواء، من حيث مفعوليتُها السياسية، أوالتفاوت بينها قد لا يُلْحَظ على هذا الصعيد، ولكن التمييز بين عقائديةٍ سياسية وأخرى قد يُطلعنا على بعضٍ من الفوارق تعني في منطق السياسة ما قد لا تعنيه في منطق الفكر. لنأخذ مثالاً لتلك الفوارق حالةَ الفارق بين الدينيّ والمدنيّ في العقائديات السياسية، محاولين تبيُّنَه من خلال نماذج ثلاثة: الأحزاب الشيوعية والأحزاب القومية، والأحزاب الدينية.

تأسيس المشروع السياسي (الحزبي) على المقدَّس، أو على ما يُحْسب واجباً دينياً، يختلف - في وجوهٍ منه كثيرة - عن تأسيسه على عقيدةٍ مدنية مثل الاشتراكية أو القومية؛ السياسةُ التي مبناها على الدين يحكمُها منطقٌ كهنوتي أو فقهي مدارُهُ على فكرة الواجب. أمّا السياسةُ التي مبناها على أهداف مدنية فهي، مهما أوغلت في الانغلاق والتشدُّد، يحكمُها منطقٌ لا يخلو من بعض الواقعية، ومدارُهُ يكون على الواجب الممكن. العقائدية السياسية الدينية تنصرف إلى إدخال الدنيا (الاجتماع، السياسية) في نطاق أحكام الدين، وهي لا ترى لنفسها من وظيفة سوى ذلك. أما العقائدية السياسية المدنية، وعلى الرغم من انطواء مشروعها على فكرة الحقيقة المطلقة أو على فكرة الحق الثابت، فتتسع لأشكالٍ مختلفة من التكيّف مع الواقع الموضوعي وحقائقه. الأولى بعيدة من منطق السياسة، والثانية بعيدة من منطق التفكير الديني؛ والأولى تقع خارج نطاق السياسة، بينما الثانية داخلة في نطاقها لأنها تميّز بين مجاليْ الدين والسياسة. من يقول إن في الأحزاب التي مبناها على الدين قدرٌ من البراغماتية لا يقلّ عمّا لدى الأحزاب الأخرى منه، لا يعرف - على التحقيق - معنى البراغماتية، ولعلّه يخلط بينها و(بين) الانتهازية أو النفاق أو المداهنة، ولا يُدرك أن مضمون المصلحة مضمون وطني ومدني، لا فئويّ ومذهبي.

أما في المسألة الثالثة فالحاجة ماسّة إلى وضع معيارٍ نظري لبناء “المائز” بين نموذجيْن من الأحزاب القائمة على فكرة المصلحة لما بين النموذجين من اختلاف، بل من تضادّ. ونحسب أن هذا المعيار ليس شيئاً آخر سوى التدقيق في معنى المفهوم النظري للمصلحة بما هو مفهوم سياسي مركزي في الفلسفة السياسية قديماً وحديثاً، وتحكيمه لبيان مدى انطباقه على هذا النموذج أو ذاك من تلك الأحزاب. ولا بأس، في هذا المعرض، من مثالٍ مرجعي في تاريخ الفلسفة السياسية.
ميَّز أرسطو بين ثلاثة أنظمة للحكم هي: النظام الملكي، والنظام الأرستقراطي، والنظام الديمقراطي (أو: نظام الفرد، نظام القِلّة، ونظام الجمهور). ووضع في مقابلها أنظمة أخرى ثلاثة هي انحرافُ الأنظمة الثلاثة الأولى عن نصابها، وهي نظام الطغيان - أو النظام الاستبدادي- والنظام الأوليغارشي، والنظام الديماغوجي.
مبدأ التصنيف الأرسطي هو مفهوم المصلحة؛ حين يخدم نظام الفرد مصلحة العموم يكون ملكياً، وحين يخدم مصلحة الفرد وحاشيته ينحرف عن معنى الملكية فيصير طغياناً. وهكذا نظام القلة: يكون أرستقراطياً (حكم الأفاضل) حين يخدم المصلحة العامة، وينحط إلى نظامٍ أوليغارشي حين يخدم القِلّة. أما نظام الجمهور فهو ديمقراطي حين تقترن فيه المصلحة مع معنى العموم، وهو ديماغوجي حين لا تُجاوِز المصلحة فيه نطاق الحاكمين. إن تحكيم نفس المعيار في الأحزاب يُطلعنا - قطعاً - على الفوارق بينها: بين أحزاب تعمل من أجل مصلحة عامّة (مصلحة الوطن والمجتمع أو حتى مصلحة الحزب العليا والجامعة)، وأخرى لا تهدف إلى أكثر من خدمة مصالح القيادة فيها - وهي قلة - أو مصلحة القائم بأمر القيادة منفرداً من غير شريك.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 503 / 2165930

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالإله بلقزيز   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165930 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010