السبت 4 تموز (يوليو) 2015

الفيدرالية المغدورة وثوب الانفصال

السبت 4 تموز (يوليو) 2015 par علي بدوان

في خضم التوقعات الكثيرة حول مصير المنطقة العربية ومستقبل دولها وحكوماتها، تدور مناقشات واسعة حول مسألة الخيار الفيدرالي. وتقف بعض القيادات موقف الرفض الصريح لهذا الخيار، فزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، يندد بالمشروع الفيدرالي الذي بات قيد التداول من جديد، ويؤكد مجدداً أن الصيغة الميثاقية التي عبر عنها «اتفاق الطائف» والتي أكدت المساواة بين الطوائف اللبنانية هي الضمانة الأهم لاستمرار الكيان اللبناني، ولحماية الجماعات الدينية والثقافية المتعايشة على أرض لبنان. وكما يحذر جنبلاط من الفيدرالية ومن أخطارها، يوجه بعض رجال الدين إنذارات إلى الذين يمسون مصالح الطوائف التي ينتمون إليها، وإلى أولئك المعتدين بأنهم إذا لم يكفوا عن هذا السلوك، فسوف يردون عليه بالمطالبة «بالفيدرالية»، أي بالانفصال.
ما يقوله جنبلاط والزعماء الدينيون يكرره زعماء من اليمن وسوريا والعراق وليبيا، وعدد من الدول العربية، في نطاق التداول بأنظمة الحكم الملائمة لما بعد الحروب. وفي هذه التصريحات والمواقف، يبدو المشروع الفيدرالي كأنه خطر يهدد المنطقة بالمزيد من التشطير والتشظي والتفكيك، وكان هذا المشروع بطبعاته المختلفة، السورية والعراقية واليمنية والليبية، هو تكملة لاتفاق سايكس-بيكو واستدراكاً تاريخياً «للأخطاء» التي ارتكبتها الإمبرياليات الأوروبية بحق نفسها في بداية القرن الفائت، عندما سمحت بقيام دول عربية متوسطة الحجم، مثل مصر العراق والسعودية وسوريا، تشكل مصدر قلق وازعاج- أحياناً- للدول العظمى والكبرى. ولكن هل تصح مساواة المشاريع الفيدرالية بمشاريع التشظي والتشطر؟
إن عدداً من أكبر وأهم دول العالم (الولايات المتحدة، ألمانيا، الاتحاد الروسي، الهند) هي دول فيدرالية. فضلاً عن ذلك فإن عدداً من دول العالم المتقدمة، مثل سويسرا وماليزيا، هي دول فيدرالية. وإذا كان التخوف من التفكك هو ما يدفع ببعض القيادات العربية إلى رفض الفيدرالية، فإنه من الضروري أن نتذكر هنا أن خطر التشظي والانفصال لا يواجه اليوم الدول الفيدرالية بمقدار ما يواجه الدول المركزية. ألم تقف بريطانيا على شفير خسارة اسكتلندا في الاستفتاء على علاقة هذا الإقليم بالدولة الترابية البريطانية؟ ألا يزال هذا الاحتمال قائماً رغم نتائج الاستفتاء التي جاءت لمصلحة الوحدة البريطانية؟ ألا تهدد الحركات الانفصالية إيطاليا وإسبانيا، رغم أن الدولتين لا تعتبران في عداد الدول الفيدرالية؟
في مواجه الاحتمالات الانفصالية لم تتجه أي من هذه الدول، أي بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، إلى تعزيز قبضة المركز على الأطراف. على العكس من ذلك، ذهبت، هذه الدول، إلى الاقتراب من الخيار الفيدرالي عبر تقديم تنازلات إلى الأقاليم التي تطالب بالانفصال فحافظت على وحدتها الترابية.
إذاً، على عكس ما يشاع ويذاع في المنطقة العربية، فإننا إذا دققنا في واقع الدول والتجارب الفيدرالية في العالم لاكتشفنا أنه من الخطأ الاعتقاد أن الأنظمة المركزية تحمي الوحدة الترابية للدول، بينما تفتح الأنظمة الفيدرالية الأبواب والنوافذ لكي تدخل منها الرياح الانفصالية. على الأقل نستطيع القول إن حظ الأنظمة المركزية في حماية وحدة التراب الوطني لا يفوق حظ الانظمة الفيدرالية في هذا المضمار. بالمقابل يمكن القول إن قدرة الأنظمة الفيدرالية على صيانة وحدة الدولة الترابية هي أفضل من قدرة الأنظمة المركزية، إذا ما توفرت للدولة الفيدرالية بعض الشروط التي هي عادة من الميزات الملازمة للخيار الفيدرالي.
يعدد البروفيسور جيمسون و. دويغ أستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون، ثلاث ميزات أساسية للفيدرالية، منها أنها تسمح للولايات بأن تضع استراتيجيتها الاقتصادية الخاصة بها بحيث تكون أكثر استجابة لمصالح الناس وطلباتهم طالما أنها أقرب إلى فهم الثقافة المحلية وإلى حاجات المواطنين وأكثر دراية بقدراتهم. ومن الميزات الأساسية أيضاً التي يعددها دويغ والتي يلتقي فيها مع الآخرين، أن الفيدرالية تعزز الحريات الفردية. إذ إن الفرد الذي يتعرض للمضايقة في ولاية بسبب معتقداته الدينية أو الاجتماعية أو السياسية يستطيع، من دون صعوبة تذكر الانتقال إلى ولاية أخرى تكون أكثر استعداداً لقبول هذه المعتقدات، بذلك تتحول البيئة الفيدرالية إلى مختبر للديمقراطية وإلى حاجز ضد الاستبداد. أخيراً لا آخراً، يستنتج دويغ من التجارب الفيدرالية الواقعية أنها أفضل من الدول المركزية من حيث توفيرها ضمانات وحريات ديمقراطية للمكونات الاجتماعية كافة.
إن هذه الميزات والفوائد التي تحققها الفيدرالية لا تغيب عن شخص في نباهة وليد جنبلاط، ولا عن زعماء دينيين، وغير دينيين، عرب عاشوا في دول فيدرالية سنوات عدة، واطلعوا من خلال هذه التجربة على مزايا النظام الفيدرالي. إذاً، لماذا النظرة إلى الفيدرالية كأنها خطر ساحق ماحق يهدد دول المنطقة ويحذر من تذريها؟
يكمن الجواب على هذا السؤال، على الأرجح، في سوء استخدام مصطلح الفيدرالية من قبل بعض الجماعات الانفصالية في المنطقة العربية. إن الحركات الانفصالية التي ظهرت في المنطقة اتبعت استراتيجية تقليدية ليست غريبة عن الحركات الانفصالية في أماكن أخرى من العالم. كان قادة هذه الحركات على علم بأن الدعوة إلى الانفصال تصطدم برفض أكثرية المواطنين، سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن، لذلك طالبوا ب«الفيدرالية» مع إسدال ستار من التعمية الكثيف على معنى هذا المطلب. وهكذا ألبست الانفصالية المرفوضة ثوباً فيدرالياً وديمقراطياً جديراً بأن يكون موضع تأييد كل إصلاحي من سكان المنطقة العربية.
لبث الأمر كذلك حتى أطاحت سياسات كارثية اعتمدتها نخب سياسية عربية وتدخلات جائرة مارستها قوى أجنبية، استقرار وأمن الدولة العربية الترابية، والنظام الإقليمي العربي الذي ارتكز عليها. عندها خلعت الانفصالية المنتشرة في المنطقة العربية الثوب الفيدرالي وأعلنت بصراحة أن الانفصال التام هو هدفها الحقيقي، وأنها تجنبت الإفصاح عن هذه الحقيقة في الماضي لأن الظرف لم يكن مناسباً. هكذا أضفت الانفصالية المقنعة على الفيدرالية ثوباً مخالفاً لجوهرها، ومسيئاً لمضمونها الذي يخدم مصلحة الأكثرية الساحقة من سكان المنطقة العربية.
وعلى الأرجح، فإن الذي قصده جنبلاط بالفيدرالية هي تلك الواجهة التي رفعتها الانفصالية في المنطقة في سياق بناء مشاريع التطهير القومي والعرقي والديني والمذهبي على حساب مشروع التعددية المجتمعية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2180657

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2180657 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40