الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015

من زيّف «المعرفة» الغربية بالإسلام؟

الثلاثاء 30 حزيران (يونيو) 2015 par د. عبد الاله بلقزيز

هل لنظرة الغربيين، اليوم، إلى الإسلام ونبيّ الإسلام والمسلمين علاقة بنظرة أجدادهم المسيحيين، في العصور الوسطى، إلى هذا الدين ونبيِّهِ ومعتنقيه ؟ هل يردّد المعاصرون منهم ما قاله السابقون، ويستأنفون ما بدأهُ الأوّلون من قدْحٍ في الإسلام، وإنكارٍ لقيمه، وتشنيعٍ على المسلمين،أم إن الصُّوَر النمطية عن الإسلام والمسلمين، التي تتكوَّن اليوم وتَرْسَخُ في الذهنية الغربية العامة، تستمد مصادرها من معطيات الاشتباك المعاصر بين الغرب والمجتمعات العربية والإسلامية، ولا علاقة لها - بالتالي - بالصور النمطية القروسطية التي رسَّختها الكنيسة، وأشاعها اللاهوتيون المسيحيون على أوسع نطاق، فباتت عميقةً في المتخيّل الجمعي للمسيحيين الأوروبيين؟.
من المسلَّم به أن صدام الصُّوَر المتبادلة بين الغرب والإسلام، اليوم، وليدُ أوضاع معاصرة تضاربت فيها المصالح والمواقف (الحقبة الكولونيالية ومواريثها، إقامة الدولة الصهيونية في قلب المشرق العربي، الصراع على النِّفط والغاز والرغبة الغربية في السيطرة على مصادرهما، معاداة حركات التحرر الوطني والقومي في البلاد العربية، الإرهاب، المهاجرون العرب والمسلمون في أوروبا وأمريكا وما يقترن بوجودهم فيهما من شيوعٍ لمنظوماتِ قيمٍ تتحسّس منها المجتمعات الغربية، مناهضة السياسات الغربية المنحازة إلى «إسرائيل»، معاداة القيم الغربية في أوساط الحركات الإسلامية...). غير أن انشداد صدام الصُّور ذاك إلى هذه الأسباب كلِّها، ليس ينفي أنه يَنْهل من ثقافة عامة سائدة، في مجتمعات الغرب، وموروثة عن الماضي المسيحي الأوروبي، يُعَاد إنتاجُها اليوم، من طريق الكتابة والتأليف كما - خاصة - من طريق وسائط الإعلام المرئي وما يمارسه من تكريه الغربيين في الإسلام، والتحريض على المسلمين: في العالميْن العربي والإسلامي، كما في المَهَاجر. إنّ نظرةً سريعة على تمثّلات المسيحيين الأوروبيين الوسطوية للإسلام تُطْلعنا على نوع الثقافة التي يتلقنها الغربيون، اليومّ، عنه.

قبل أن تستقيم المعرفة الأوروبية والغربية للإسلام على القواعد العلمية، في ما سيُعرف باسم الاستشراق بدءاً من مطالع القرن التاسع عشر، كانت هذه قد مرّت بحقبةٍ تاريخية طويلة مَلْأى بالخيالات والتمثُلات الأسطورية، وبالآراء والمواقف اللاهوتية العدائية، وبالدهشة من اكتشاف صورة أخرى إيجابية للإسلام (في إنتاجه العلمي والفلسفي)، وبمشاعر الخوف المديد من قوة الإسلام العسكرية - ممثَّلة في الإمبراطورية العثمانية - ثم بتجاهُله، بعد تراجع خطره العسكري في بدايات القرن السابع عشر، فإلى إعادة الانتباه إليه في حقبة التنوير، في القرن الثامن عشر، وفي امتداد صعود الرومانسية الألمانية وازدهار أدب الرحلة (فرنسا خاصةً)؛ المنبهريْن بسحر الشرق.
وفي سياق هذا التاريخ الطويل، الممتدّ من القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، وخاصة من القرن الثاني عشر الميلادي، لم تكن التمثّلات الأوروبية (المسيحية) للإسلام موضوعيةً أو حتى دقيقة، ساد فيها الاضطراب والتشوُّش أحياناً، بسبب الجهل وسوء المعرفة، فيما سيطر في بعضها التقصُّد إلى إساءة تقديم الإسلام إلى المسيحيين الغربيين من قبل لاهوتييهم ومفكريهم وحكّامهم. وفي المستطاع القول، بالإجمال، إذ هذه «المعرفة» الغربية للإسلام، المستمرة في تناقضاتها على غير انقطاع إلى نهايات العصور الوسطى الأوروبية، لم يكن لها أن تنتج غير صُوَرٍ نمطية سلبية ما لبثت أن ترسخّت في الذهنية العامة، بوصفها الصور الحقيقية عن الإسلام، ودُرِج على إعادة إنتاجها أو على استدعائها من جديد كلما دعت إلى ذلك ضرورة!.
لو فحصنا ما خلَّفته كتاباتُ اللاهوتيين المسيحيين، في أوروبا، عن الإسلام والمسلمين ومجتمعاته ونبيّهم، وما كرَّسَتْه الأغاني والآداب الشعبية من أساطير عنهم، لَدُهِشنا من شدة آثار صدمة جهل هؤلاء بالإسلامَ جهلاً كبيراً، أو من شدة صدمة اكتشاف حجم العَدَاء الأعمى للإسلام في أوساط أكثر رجال الدين في أوروبا؛ فمِن تخيُّل المسلمين برابرة متوحشين، ووثنيين يعبدون الأصنام، ومن تشنيعهم على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى «شغفه» بالعنف والملذات؛ إلى الطعن على نبوّته وعلى أصالة القرآن، ومهاجمة تعاليمه، والقَدْح في أخلاق أتباعه، والتحريض عليهم وعلى دينهم... إلخ، كانت ترتسم ملامح تلك الصّور النمطية الغربية وقسماتها. وقد تغذّى وعيُ أجيالٍ متطاولة في أوروبا المسيحية الوسيطة - كما في أوروبا والغرب الحديثين - من هذه الصور النمطية؛ بحيث لم تكد معرفتُها عن الإسلام أن تخرج عن نطاق معطياتها إلاّ في النادر: في حالة المفكرين المتحررين من سطوة أفكار الكنيسة، أو المتصلين - اتصالاً مباشراً - بتراث الإسلام، والعارفين بمقدار ما أسهم به ذلك التراث في تاريخ الفكر الإنساني، بما فيه تاريخ الفكر الديني (اللاهوتي). لهذه «المعرفة» المشوَّشة والمزيَّفة، والحاقدة أحياناً كثيرةً، ما يفسّرها من أسباب تاريخية ودوافع دينية؛ إذْ كان لظهور الإسلام على مسرح التاريخ آثار انقلابية في علاقات القوى بين الدول والحضارات والأديان. لقد حدّ من نفوذ المسيحية، في نظر لاهوتييها، وسيطر على أجزاء من سلطانها في سوريا، ومصر، وإسبانيا، وصقلية، وجزر المتوسط، ثم في القسطنطينية، وبلغاريا، وهنغاريا، واليونان، وهدّد فرنسا والنمسا في مرحلةٍ من تقدّم الجيوش العثمانية.
وإلى ذلك فإن نصوص الإسلام طعنت على عقائد المسيحية الكاثوليكية (عقائد التثليث والصَّلب والتجسيد) واتهمت أتباعها بتحريف الدين، ناهيك «بصاعقة» سيطرة المسلمين على الأراضي المقدسة في فلسطين ومنها «قبر المسيح». ولم تكن الحروب الصليبية وحدها الصّدام العسكري الذي تولّد من الشعور بالحاجة إلى استعادة سلطان المسيحية في المشرق، وإنما استمرت الصدامات منذ حروب «الاسترداد» في الأندلس حتى الحروب الكولونيالية في القرنين 19 و20 في موجات متصلة لم تتغيّر فيها، كثيرًا، النظرة الغربية العدائية للإسلام كدين، ولعالم الإسلام كمجتمعات وكمنظومات ثقافية وقِيَمية.
تغذّت مشاعر التوتُّر، في القرنين الماضيين، بوقائع جديدة استجدت في سياق العلاقة بين عالميْ الغرب والإسلام: الاستعمار، الاستتباع الاقتصادي الإمبريالي، المصالح النفطية، الصراع العربي - الصهيوني، صعود الحركة القومية العربية وحركات التحرر الوطني، صعود «الإسلام السياسي» وولادة تيارات التطرف والعنف من أحشائه، مشكلات الهجرة في الديار الغربية، اندلاع موجات الإرهاب وضربها العمقَ الأمريكي والغربي... إلخ. وبما أن مشكلات التوتر هذه كافية لتوليد أسوأ علاقة ممكنة بين الغرب والإسلام، وبما أن المعرفة العامة بالإسلام في الغرب تكاد تتحرك - في جهلها - عند نقطة الصفر، فقد لاحت الفرصة لمهندسي الحروب الكولونيالية، وألسنتهم الثقافية والإعلامية، لإعادة بعث كلّ ذلك المخزون الغربي المسيحي الوسيط من الصور النمطية، وإشاعته في الرأي العام الغربي من طريق وسائط الإعلام، قصْد شيطنة الإسلام والمسلمين، وتبرير الحروب الجائرة ضدهم (أفغانستان، الصومال، العراق، فلسطين...)، أو الحروب القذرة بينهم (سوريا، العرق، ليبيا...). وهكذا لم تعد من «معرفة» بالإسلام لدى الغربيين، اليوم، إلاّ المعرفة التي كانت لدى أجدادهم قبل ألفِ عام!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2165762

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالإله بلقزيز   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165762 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010