الاثنين 8 حزيران (يونيو) 2015

الداعشية

الاثنين 8 حزيران (يونيو) 2015 par خالد الحروب

الهمجية الداعشية التي تتمظهر عسكريا وتوحشيا في أقصى صورها على شكل داعش ودولتها العتيدة هي عمليا النتاج الطبيعي لما يُقارب من قرن كامل على توظيف الدين في السياسة في منطقتنا. والتأمل في مآلات المنطقة وخياراتها المستقبلية المحدودة يشير إلى شواهد و“بشائر” الحروب الدينية والطائفية المدمرة القادمة.
والمدهش حقا هو أن ملاحقتنا جميعا لبيارق تلك الحروب وهي تخفق في عدة بلدان، لا تمنعنا من الركض خلفها ونحو الحتف الجماعي الذي ترسمه لنا وكأننا في حالة نوم مغناطيسي مذهلة. هذا المسار تقوده الداعشيات السنية والشيعية معاً، وخلفهما تلهث شعوب وإعلام ونُخب وحكومات وأحزاب سياسية. في فضاء كل من “المعسكر السني” و“المعكسر الشيعي” في المنطقة هناك نفس الخطاب والتجييش والإقصاء والتكفير والاتهام بالعمالة لـ“المعسكر الآخر”. تحليل الخطاب الديني والسياسي والإعلامي السائد يقود إلى نفس النتائج تماماً مع تغيير مفردة “سني” أو “شيعي” وحسب. المعمل الأساسي لخطاب التصفية والإقصاء يشرف عليه داعشيو السنة وداعشيو الشيعة، ثم يصدرون منتجهم القاتل إلى بقية المعسكر بمتطرفيه ومعتدليه وحتى علمانييه، ويعيد هؤلاء استنساخه وإنتاجه بسذاجة قاتلة.
في مناخ كهذا لا يحق لك حتى لو كنت علمانيا صافيا لا يؤمن بخلط الدين في السياسة أن تأخذ الحياد أو رفض الانجرار إلى مستنقع الطائفية وعفونة خطابة وتصنيفاته. تختفي كل المساحات الرمادية والهوامش ويُحشر الجميع بين فكي كماشة الأسود والأبيض: من ليس معنا فهو ضدنا، وعلى المذبح غير المقدس لهذا الشعار يتم نحر العقلانية والتعقل والاختلاف.
تأمُلُ حالة التدعوش الجماعي التي ننحط إليها وباستخدام قليل من التعقل تقودنا إلى توكيد جملة من الأفكار الإنقاذية التي دعا إليها كثير من مثقفي العرب منذ أكثر من قرن من الزمن، وكثير منهم لا يزال. الفكرة الأهم هي كارثية خلط الدين مع السياسة سواء من قبل الحكومات والأنظمة أو الحركات والأحزاب الإسلامية. في كلا الحالتين وبحثا عن شرعيات مفقودة في الحالة الأولى، وتأسيساً لخطاب يوظف التدين الشعبي في الحالة الثانية، أزيح الجزء العريض من السياسة وعلى مدار عقود طويلة إلى مربع الدين. وهناك تم تديين السياسة واعتبارها مكونا من مكوناته المعاصرة، فصار الحكم والمعارضة والانتخابات وما تعلق بالممارسة السياسية شأنا دينياً. في المرحلة الأولى من هذه السيرورة ظن اللاعبون الأساسيون الذكاء الخارق في أنفسهم لجهة توظيف الدين والإبقاء على مقاليد السيطرة على نواتج جانبية مُتولدة من هذه العملية الخطيرة. وعلى مدار قرن تقريبا اعتاشت أنظمة ودول وحركات ومنظمات على مسألة الشرعية الدينية للعمل السياسي الذي تقوم به، وبدا في حقب طويلة أن هذه العملية غير مُضرة خاصة وأنها ارتبطت بالدول المعتدلة إلى حد ما، وكذلك بإنتاج حركية إسلامية معتدلة إلى حد ما مقارنة بما نشأ وتطور في حقب تالية. بيد أن ما كان يحدث تحت السطح المختل في اعتداله كان بالغ الخطورة ومدمراً. إذ باستخدام ذات الآلية (توظيف الدين في السياسة) التي احتمت بها أنظمة أو استغلتها حركات الإسلام السياسي نمت في الظلام وفي جنبات وزوايا الفشل السياسي والاقتصادي وتواصل القهر وانعدام المستقبل تنظيمات وأفكار بالغة التطرف. ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي على أقل تقدير لم يتوقف نمو وزيادة عدد وتنوع هذه التنظيمات التي انخرطت في سباق مع نظيراتها في إظهار التشدد والتطرف، والإدعاء بأنها تمثل الإسلام الصحيح، وأن غيرها ومهما كان متدينا وإسلاميا (دولة، أو أفراداً، أم حتى حركات إسلامية أخرى) مارق عن الدين أو منافق. على ذلك يمكن عمليا الزعم بأن بدايات تشكل داعش تذهب إلى هناك، من ناحية الشكل المتطرف العام، ومن ناحية التوظيف الدموي للدين لتحقيق أهداف سياسية.
لكن لم يكن للداعشية، بشقيها السني والشيعي، أن تنجح لولا المناخ العام الذي وفر لها كل مكونات الحياة والنمو والتطور السريع. في مقدمة ذلك المناهج التعليمية والدينية وخطاباتهما في المنطقة، خاصة في دول المشرق. ذلك أنه رغم التطور التحديثي الذي انخرطت فيه الدول العربية فقد بقيت المناهج التعليمية جامدة، وأسيرة خطاب ديني متكلس وأحادي يوفر العناصر التكوينية الأساسية لأي تطرف لاحق. ففي كثير من مناهج التربية الدينية في عدد كبير من الدول العربية لا نجد اختلافات كبيرة عن تلك المناهج التي تدرسها التنظيمات المتطرفة لاتباعها من ناحية إقصاء الآخر، والنظرة الحصرية الضيقة، والزعم بتمثيل الدين النقي، وسوى ذلك. وفي الحقيقة فإن ما تضيفه الداعشية على ما يتلقاه كثير من الطلاب في المدارس الرسمية العربية هو استخدام السلاح والتفعيل العملي لما كانوا قد تعلموه نظرياً وتشغيله في الميدان.
ترافقت تلك البنية المحلية في الخطاب الديني والتعليمي مع فشل حكومي ودولتي بارز في المنطقة لجهة استكمال بناء مجتمعات ناجعة اقتصاديا وعلميا، وناجحة في مواجهة الأعداء الخارجيين خاصة إسرائيل، ومتحدية للأطماع الدائمة للقوى الكبرى في ثروات البلدان. ثم جاءت ثورة الخميني لتزيد من خصوبة أرض التطرف وتتحدى الخطابات السنية المتطرفة بخطاب شيعي أكثر تطرفا، وتتوعده بتصدير الثورة وتصيير إمامها إماما على كل المسلمين سنة وشيعة. وهكذا تفاقمت كل الظروف المستقبلة والموائمة للطائفية التي نعيشها اليوم، خاصة بعد حرب العراق وانفلات الغول الطائفي فيه، بما خلق كل التحالفات والبيئات المطلوبة والأسباب الداخلية والخارجية لإنتاج ونمو الداعشية.
والنتيجة الكارثية التي نحياها ونشهدها اليوم بامتياز تقود إلى وضع أكثر كارثية. وليس من ثمة حل بعيد الأمد أمام شعوب وحكومات ودول المنطقة إلا الابتعاد الحقيقي والفاعل، وبعد الشواهد التي تفوق الحصر الآن، عن خطورة ودموية خلط الدين بالسياسة. هذا الخليط متفجر ولغم دائم الاشتغال ولا يتوقف عن قتل وحصد مستقبلات الأفراد والشعوب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165440

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع خالد الحروب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165440 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010