الاثنين 8 حزيران (يونيو) 2015

انتهت لعبة «مدريد أوسلو»

الاثنين 8 حزيران (يونيو) 2015 par علي جرادات

كان لربع موهوب من الباحثين المختصين في علم «المستقبليات» أن يتنبأ بمآل مسيرة مفاوضات «مدريد-أوسلو» منذ انطلاقها. أما لماذا؟ «سنواصل الاستيطان جوهر الصهيونية»، و«سنفاوض الفلسطينيين عشرين عاماً»، قال شامير الصقر «الليكودي» الذي أدار المفاوضات بعد «مدريد»، 1991، كرئيس لحكومة الكيان، آنذاك. وبالإستراتيجية ذاتها أدارها مهندس «اتفاق أوسلو»، 1993، رابين «العمالي» رئيس حكومة الكيان آنذاك، حيث رفض وقْف الاستيطان، وأكد أنه «لا مواعيد مقدسة»، ذلك رغم أنه اختار التفاوض، (خلافاً لشامير الذي فاوض مرغماً)، بل وحدد خمس سنوات للتوصل إلى «حل نهائي» لقضايا «اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه». لكن هذه القضايا، (جوهر الصراع)، لم تُحل لا خلال المدة الرسمية لمفاوضات «أوسلو» التي انتهت إلى صفر نتائج في مايو/أيار 1999، ولا خلال التمديد الواقعي الإضافي لها. ولو شئنا تلخيص الاستراتيجية التفاوضية لقادة الكيان، على اختلاف ألوانهم الحزبية، لقلنا إنها تشبه استراتيجية ذاك الذي أرسل رأس مبعوث عدوه للسلام وخاطبه بالقول: «الجواب فيما ترى لا فيما تسمع».

لذلك، لا غرابة في أن يعلن نتنياهو رئيس حكومة المستوطنين الجديدة في مؤتمرين صحفيين عقدهما مؤخراً على التوالي مع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، موغيريني، ووزير الخارجية الألماني، شتاينماير، عن استعداد حكومته لاستئناف المفاوضات المُجمَّدة بقرار من حكومته السابقة منذ عام تقريباً، إنما ليس لتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، بل ل«تحديد حدود المستوطنات». هذا فضلاً عما أطلقه من تصريحات تحدث فيها كثيراً عن «السلام»، لكن مع التركيز على «أن المشكلة ليست في الاستيطان»، بل «في الأمن»، وفي الحاجة إلى إدخال تعديلات على «مبادرة السلام العربية» لأجل مناقشتها لا قبولها! وفي عدم استعداد العرب والفلسطينيين للاعتراف ب«إسرائيل» «دولة للشعب اليهودي»!، وفي التوجهات الفلسطينية الجديدة لتدويل قضيتهم والتهرب من المفاوضات «الثنائية المباشرة وغير المشروطة» القادرة وحدها-برأيه- «على صنع السلام» الذي لم يتحقق طوال عشرين عاماً ويزيد من هذه المفاوضات.
هذا يعني أن حكومة نتنياهو الجديدة لا ترفض وقْف الاستيطان وتحديد سقف زمني للتفاوض، فقط، بل تريد الحصول بالتفاوض على ترسيم لحدود التوسع الاستيطاني، أي انتزاع ضمانات دولية، أوروبية بالذات، لإعطاء «إسرائيل» مساحة إضافية من الضفة للاستيطان، تكون جزءاً من «إسرائيل» وتحت سيادتها في أي اتفاق مستقبلي لإنهاء الصراع. أي مساحة تضاف إلى منطقة القدس، (مساحتها الآن 17% من الضفة)، ومنطقة الكتل الاستيطانية القائمة وشوارعها الالتفافية، (مسطحاتها الآن 6%)، ومنطقة الأغوار، (قرابة ثلث مساحة الضفة)، كمناطق يستثنيها من البحث ويرفض التفاوض حولها حزب الليكود وحلفاؤه الأشد منه تطرفاً.
إذاً لسنا إزاء كلام عابر لنتنياهو، إنما إزاء خطة استيطانية لعصابة بمسمى حكومة لا تكتفي بتطبيقها على الأرض بتسارع جنوني، بل وتضغط على دول الاتحاد الأوروبي تحديداً للقبول بها في إطار الدعوة إلى استئناف التفاوض ل«تحديد حدود المستوطنات». صحيح أننا أمام وقاحة سياسية غير مسبوقة، لكن نتنياهو لم يكن ليعلن عنها بهذا المستوى من السفور لولا الخلل الكبير الذي أحدثه القبول الفلسطيني والعربي بمبدأ «تبادل الأراضي»، وبالتمديد الواقعي للمفاوضات، وبتجاهل أن عدوانية «إسرائيل» وتوسعيتها متجذرة في بنية مجتمعية موغلة في العنصرية إلى حدود الفاشية، وبتناسي أن حكوماتها ترفض التسويات السياسية بمقتضى نظام سياسي استيطاني إقصائي يستدعي الحروب والتمسك باللاءات المعلنة: لا لحق اللاجئين في العودة، لا للانسحاب إلى حدود 67، لا لوقف الاستيطان وتفكيك الكتل الاستيطانية، لا لتقسيم القدس، ولا لإنهاء حصار قطاع غزة ووقْف شن الحروب عليه قبل تجريد المقاومة فيه من سلاحها.
هنا يكمن منبع وقاحة نتنياهو الذي يقود حكومة مستوطنين تفوق في تطرفها وعنجهيتها حكوماته الثلاث السابقة، بل وحكومات «إسرائيل» قاطبة. وبداهة أن عنجهية حكومة نتنياهو تعكس اطمئناناً إلى الرعاية الأمريكية الثابتة التي تحول دون أي شكل فعلي لمساءلة «إسرائيل» أو الضغط عليها لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع. وبداهة أيضاً أنها تعكس ارتياحاً «إسرائيلياً» غير مسبوق، ارتباطاً بالإرهاب التكفيري الذي يفتك بالوطن العربي دولاً وجيوشاً ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً، وبالانقسام الفلسطيني العمودي المدمر الذي لا تتوافر إرادة سياسية جادة لإنهائه.
لذلك لن نستغرب إذا أقدمت واشنطن على امتداح حكومة نتنياهو ومكافأتها على قبولها بمبدأ التفاوض، إذا لم تقم واشنطن هذه، (مثلاً)، بمكافأة حكومة شامير على قبولها المشاركة في «مؤتمر مدريد»، بالضغط والنجاح في إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار«الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية». وهي المكافأة التي، ربما، لم يحلم قادة الكيان آنذاك بالحصول عليها بسهولة ومجاناً.

على أي حال، أن تسعى حكومة نتنياهو إلى انتزاع تشريع لالتهام ما تبقى من أرض الضفة خارج قبضة «إسرائيل» التي باتت تسيطر، بصيغ مختلفة، على 85% من أرض فلسطين، ذلك يعني أن لعبة مفاوضات «مدريد- أوسلو» قد انتهت، وأن العرب والفلسطينيين منهم بالذات باتوا أكثر من أي وقت مضى أمام استحقاقات مراجعة سياسية جدية وشاملة أولاً لفرضية استعداد إسرائيل لتسوية الصراع، كفرضية أنجبت رهانات التنازلات المجانية المتسرعة، وثانيا لفرضية أن سياسة الولايات المتحدة يمكن أن تكون أكثر توازناً، كفرضية أنجبت الرهان على ضغط أمريكي يلزم «إسرائيل» بقبول أدنى الحقوق العربية والفلسطينية. باختصار آن أوان مراجعة هذه الرهانات الفاشلة التي لم تأخذ بعين الاعتبار لا بنيوية عدوانية «إسرائيل» وتوسعيتها، ولا اختلال ميزان القوى في حقبة نظام «القطب الواحد»، ولا الدعم الأمريكي الاستراتيجي الشامل وغير المحدود لتمادي قادة «إسرائيل»، المعبر عنه اليوم في دعوة حكومة نتنياهو إلى استئناف التفاوض ليس لإنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والاستيطانية والأمنية، إنما ل«تحديد حدود المستوطنات»، أي لترسيم حدود الزحف الاستيطاني.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165821

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي جرادات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165821 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010