الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010

جرائم بلا عقاب

الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010 par د. عبدالحسين شعبان

إذا كانت «إسرائيل» قد ارتكبت في تاريخها الذي يربو على 62 عاماً جرائم كثيرة، وانتهكت بصورة سافرة قواعد القانون الدولي بشن الحرب واحتلال الأراضي وضمّها وارتكاب مجازر ضد الانسانية وأعمال إبادة جماعية، إضافة الى جرائم الحرب، فإن حربها ضد غزة أواخر العام 2008 اوائل العام 2009 والتي دامت 22 يوماً بعد حصار لا إنساني لثلاثة أعوام، كانت الأكثر جدلاً ونقاشاً، لاسيما بشأن مسألة الإفلات من العقاب، خصوصاً لحجم الانتهاكات الصارخة من جهة، وارتفاع حساسية المجتمع الدولي من جهة أخرى، والذي تجلّى بصدور تقرير عن لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، والذي عُرف باسم تقرير غولدستون، حيث اتهم «إسرائيل» بارتكاب جرائم ترتقي الى جرائم حرب، وبالتالي فإن هذا التقرير كان إضافة جديدة الى مسؤوليات المجتمع الدولي بشأن ملاحقة المرتكبين «الإسرائيليين» للجرائم وعدم جعلهم يفلتون من العقاب.

لقد أقرّ ميثاق الأمم المتحدة مبادئ العدالة وأكدّ احترام الالتزامات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية، باعتبارها أحد أهم مصادر القانون الدولي المعاصر، الاّ أن رقعة الانتهاكات للقانون الدولي لا تزال مستمرة، وأن حجم الارتكابات مثير للقلق، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة وجدّية أمام المجتمع الدولي بشأن نظام العدالة السائد، ويضع أمامه تحديات بخصوص استخفاف «إسرائيل» وتنكّرها للقواعد والقرارات الدولية، لاسيما تلك التي تصدرها الأمم المتحدة.

وكانت ردة الفعل الحقوقية على عملية الرصاص المسكوب أو المنصهر هو قيام منظمات محلية ودولية لجمع معلومات وتقديم تقارير وتوصيات وتحديد مهمات لملاحقة المرتكبين من خلال لجان تقصي حقائق، ولعل أبرز المنظمات كانت منظمة عدالة وجمعية حقوق الإنسان في «إسرائيل» ومنظمة الحق الفلسطينية والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. وقامت هذه المنظمات بالتعاون مع الفيدرالية الدولية في توثيق الجرائم والانتهاكات في عمل مهني حقوقي - إنساني.

ولعل مسألة الجريمة والعقاب وملاحقة «إسرائيل» والمتهمين بارتكاب جرائم، لا تتوقف عند حدود، فما أن تنتهي قصة، حتى تبدأ أخرى. وقد كشفت عملية اغتيال محمود المبحوح حجم الإرهاب الدولي، الحكومي، الرسمي الذي تقوم به «دولة» عضو في الأمم المتحدة، وكانت «الدولة» الوحيدة التي اشترطت عليها المنظمة الدولية تأمين احترام حقوق الإنسان، لاسيما لعرب فلسطين والإقرار بحق اللاجئين بالعودة بالقرار 194 الصادر عام 1948، لكن هذه الجريمة أعادت مطالبة المجتمع الدولي وهيئات حقوقية ودولية ملاحقة المرتكبين «الإسرائيليين» وتوجيه لائحة اتهام ضدهم.

لقد أصحبت مسألة إفلات «إسرائيل» من العقاب مثار جدل فقهي دولي، قانوني وسياسي، لاسيما أن العديد من المنظمات الدولية، خصوصاً الحقوقية أخذت تضغط على المجتمع الدولي للتمسك بمبدأ عدم إفلات المرتكبين من أيدي العدالة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن حماية السلم والأمن الدوليين هو أحد أبرز الأهداف السامية للأمم المتحدة والتي لا يمكن تحقيقها دون بلوغ احترام حقوق الإنسان وتأمين مبادئ العدالة، خصوصاً ضمان حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف، فالعدالة ضمان للسلام على المستويين الوطني والدولي.

وأظهرت الحرب المفتوحة على غزة مدى استهانة «إسرائيل» باتفاقيات جنيف لعام 1949 وبقواعد القانون الدولي، وهو ما يؤكده حجم الدمار الذي حلّ بالبشر والعمران والمرافق الاقتصادية والحيوية والبيئية، وارتفاع نسبة الوفيات بين المدنيين التي تجاوزت حسب بعض التقارير أكثر من 80 % من الضحايا البالغ عددهم أكثر من 1400 قتيل، وأكثر من 5 آلاف جريح وهدم وتدمير كلي أو جزئي لنحو 20 ألف منزل.

إن بحث مسألة الجريمة والعقاب لا يتعلق بجانبها النظري فحسب، بل بالجوانب العملية، حين يتم بسطها على طاولة الدراسة والتحقيق والفعل، بما له علاقة بالضحايا وجبر الضرر والتعويض، ناهيكم عن معاقبة المسؤولين وإصلاح نظام العدالة، فـ «إسرائيل» على مدى أكثر من ستة عقود من الزمان كانت تعفي نفسها من أية مسؤولية سياسية أو جنائية أو مدنية أو أخلاقية، تجاه خرقها للقوانين الدولية والانسانية.

وهكذا فقد أقدمت على اغتيال محمود المبحوح بدم بارد متجاوزة سيادات عدد من البلدان، منتهكة بكل استخفاف قواعد القانون الدولي، غير عابئة بردود الفعل الدولية، خصوصاً استخدام جوازات سفر دبلوماسية لعدد من البلدان الأوروبية، وقد كشفت التحقيقات أن طاقماً زاد على 26 عنصراً أسهم في هذه الجريمة. لقد أصرّت دولة الإمارات العربية المتحدة على ملاحقة المرتكبين وكشف خيوط الجريمة، ووضعت بذلك المجتمع الدولي والأمم المتحدة أمام مسؤولياتهما، وكذلك كشفت حجم التواطؤ الدولي، سواءً بتسهيل المهمات أو السكوت أو عدم اتخاذ إجراءات جدية إزاء تزوير جوازات سفر عدد من البلدان الأوروبية حيث قام الموساد بتزويد المرتكبين بجوازات سفر دبلوماسية لتنفيذ مهمتهم.

لقد أولت بعض المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية مسألة العدالة الدولية أولوية في نشاطها، الأمر الذي جعل تقاريرها محوراً جديداً للنقاش الداخلي والدولي بشأن الانتهاكات وسبل ملاحقة المرتكبين، خصوصاً وقد قدّمت بعض المنظمات الفلسطينية، لاسيما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان معلومات الى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك الى القضاء الإسباني لملاحقة المرتكبين «الإسرائيليين» بمن فيهم بن أليعازار وستة آخرين من رفاقه، وقام القضاء الإسباني بتوجيه مذكرة اعتقال بحقهم.

وللأسف فقد أدى الضغط «الإسرائيلي» الى تبنّي البرلمان الإسباني قراراً يحدّ من التشريع الإسباني المتعلق بالولاية الدولية، لكن ذلك لا يمنع من تكرار مثل هذه المحاولات في إسبانيا، وفي غيرها من البلدان التي يأخذ نظامها القضائي بالولاية الدولية، حيث لا يزال الطريق سالكاً، حيث تسمح قوانين نحو 47 دولة باتباع هذا الطريق رغم الضغوط «الإسرائيلية» والأمريكية، وذلك بغض النظر عن مكان وزمان وقوع الجريمة وجنسية المرتكبين أو الضحايا، طالما هي جرائم دولية يحاسب عليها القانون الدولي.

وبخصوص ملاحقة المرتكبين في إطار القضاء «الإسرائيلي»، كما تقتضي قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 ونظام محكمة روما الأساسي لعام 1998 والذي دخل حيّز التنفيذ العام 2002، فإنه من النادر أن تتكلل الشكاوى المُقامة في المحاكم «الإسرائيلية» على قلتها أية إدانة تُذكر، إذ لا يُعقل أن يصدر المتهم قراراً بإدانة نفسه وتجريمها، خصوصاً وهو من استخدم الأسلحة المحرمة دولياً ومن قام بالإرهاب والعدوان والاحتلال، ويستمر في بناء جدار الفصل العنصري ويحرم الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته الوطنية المستقلة.

إذا كانت «إسرائيل» تستخف بالمجتمع الدولي، لأنها في كل مرة تفلت من يد العدالة، الاّ أن ما قامت به دولة الإمارات من ملاحقة وإصرار لكشف جريمة، يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لاسيما أن «إسرائيل» عادت وارتكبت جريمة جديدة عندما هاجمت قافلة الحرية السلمية، وقتلت 9 من ركابها المدنيين الذين جاءوا بمهمة إنسانية ينقلون مواد غذائية ودوائية ضرورية إلى سكان قطاع غزة المحاصر.

ولعل موقف تركيا الحازم إزاء جريمة «إسرائيل» بقتل مواطنيها ومن دعم سكان غزة المحاصرين، قد دخل كعنصر جديد في مقاضاة «إسرائيل»، بحيث لا ينبغي على هذه الجرائم أن تمرّ بلا عقاب، لا على المستوى الجماعي ولا على المستوى الفردي، إذ بإمكان الضحايا أو عوائلهم التقدم الى المحاكم الوطنية في الدول التي تأخذ بالولاية القضائية العالمية، بغض النظر عن جنسية المرتكبين ومكان وقوع الجريمة، لإقامة دعاوى لمحاكمة الجناة فضلاً عن طلب التعويض المادي والمعنوي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 64 / 2182191

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2182191 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40