الجمعة 29 أيار (مايو) 2015

هل من «مشروع مارشال» بتمويل عربي؟

الجمعة 29 أيار (مايو) 2015 par رغيد الصلح

من الصعب أن يحصي المرء حجم الخراب البشري والمادي الذي سببته النزاعات التي حلت بالمنطقة خلال العقد الراهن، ولكن مع ذلك هناك حاجة إلى إدراك هذه الآثار وتتبع منابعها وحوافزها بغرض العثور على طريق لمعالجتها.
لقد تعددت المحاولات الرامية إلى تحقيق هذه الأهداف، واستعان البعض منها بالخبرات التاريخية وبالمقارنات بين ما مرت به المنطقة في الماضي، وما تمر به اليوم من أجل فهم أحداثها الراهنة.
وفي هذا السياق، تساءل كثيرون: ماذا بعد؟ كيف نعيد بناء المنطقة؟ وقد أجاب الكثيرون عن هذه الاسئلة بالدعوة إلى “مشروع مارشال” جديد موجه هذه المرة إلى منطقة الشرق الأوسط.
وأطلق هذا الاقتراح موجة من المناقشات في منطقتنا وفي الولايات المتحدة.
بعد بداية الصراعات العنيفة والمسلحة في المنطقة العربية، وقبل تكليف السيناتور جون كيري بفترة قصيرة، بمهام وزارة الخارجية الأمريكية، قال في لقاء في جامعة تافت الأمريكية إن «هناك حاجة ملحة إلى “مشروع مارشال” جديد موجه إلى الشرق الأوسط». لم يكن هذا رأي كيري وحده، بل كان رأي الكثيرين من أهل الرأي والقرار الأمريكيين أيضاً.
تضمنت لائحة المتعاطفين مع هذه الفكرة مؤيدين ومؤيدات من الحزب الديمقراطي، مثل هيلاري كلينتون، ولم تقتصر على الديمقراطيين وحدهم، بل شملت جمهوريين مثل وزير الدفاع الأمريكي السابق تشاك هاغل.ولا اقتصر تأييد مشروع مارشال للشرق الأوسط على حمائم النخبة السياسية الأمريكية، وإنما شمل صقورها أيضاً، مثل السيناتور جون ماكين.لقد أجمع هؤلاء على صواب إطلاق “مشروع مارشال” جديد للشرق الأوسط هذه المرة.مقابل هذا الرأي، أبدى البعض من أهل الرأي بصورة خاصة، معارضته للمشروع.واستندت معارضة هؤلاء إلى الملاحظات التالية:
أولاً: لقد نجح “مشروع مارشال” في أوروبا نجاحاً باهراً، لأن أوروبا رغم الخراب الذي عمّها، كانت مستعدة لإعادة البناء.
صحيح أن البنية التحتية دُمرت، وصحيح أن الملايين من الشباب ومن أصحاب التجربة والخبرة قضوا في الحرب، ولكن بقي عشرات الملايين من الأوروبيين المؤهلين للمساهمة في إعادة بناء أوروبا، فشكلوا الأساس البشري للنهوض بالقارة من جديد.
بالمقارنة، فإن المتحفظين على “مشروع مارشال” عربي التوجه، لا يجدون في المنطقة نظيراً لأولئك الأوروبيين الذين أعادوا بناء أوروبا بسرعة قياسية.
ثانياً، إن الفارق بين الأوروبيين والعرب لا يعود إلى توفر تأمين المال لإعادة إعمار أوروبا، والحاجة إلى تدبيره لإعادة إعمار المنطقة العربية، بل إن الفارق هو، في نظر المعارضين، ثقافي-ديني، كما يرى اميتاي اتزيوني، عالم الاجتماع الأمريكي.
ولتوضيح هذه النقطة يعود اتزيوني إلى كتابات ماكس فيبر، وإلى مقارناته بين القيم الإسلامية والكاثوليكية من جهة، والقيم البروتستانتية والكونفوشية من جهة أخرى، وإلى الفارق بين التقدم الذي حققته النمور الآسيوية، وتخلف الدول ذات الأكثرية الإسلامية، من جهة أخرى.
إن ما ينقص ملايين الشباب العرب العاطلين عن العمل الذين يمكنهم المساهمة في إعادة الإعمار هو، في رأي إحدى المتحفظات على “مشروع مارشال الشرق اوسطي”، ليس الكفاءات الفنية العالية التي تمتع بها الأوروبيون خلال الأربعينات، بل «الأخلاق العادية للإنسان المنتج مثل تحمل الفرد مسؤولية أفعاله»، والاستعداد للعمل الشاق.
ثالثاً، إن استفحال مشكلة التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط، ومنه إلى بقية المناطق في العالم، لا يعود، في رأي عدد من الصقور المشاركين في المناقشات، إلى أسباب اقتصادية أو اجتماعية، وإنما إلى أسباب أمنية.
والرد على محركات الإرهاب ومحفزاته لا يكون بتقديم التنازلات للبيئات الحاضنة للإرهابيين - أي كما يقترح كيري، فهذا العمل يشبه، في نظر أحد الصقور إياهم هو محاولة لتقديم بديل عن النازية، بينما هتلر في ذروة توسعه وقوته، و«قبل أن يلحق الحلفاء الهزيمة النهائية بالنازية» لم يفعل ذلك.
وتوفر التجارب الدولية والعربية أجوبة كثيرة تؤكد صواب اقتراح جون كيري، وخطأ المعارضين والمتحفظين على مشروع مارشال.
فلا بأس من العودة إلى كتابات فيبر للمقارنة بين إخلال الأمم والشعوب، فالفيبيرية التي لم تكن في يوم من الأيام كتاباً مقدساً، بل تراثاً فكرياً وعلمياً راقياً ومحفزاً إلى البحث الحر عن الحقائق، لا تقدم جواباً شافياً عن السؤال الذي يطرح يومياً في بغداد اليوم ألا وهو: لماذا تمكن العراقيون بالاعتماد الكلي على أنفسهم وبتكلفة ضئيلة نسبياً، وبعدما دُمر بلدهم أن يعيدوا تشييد البنى التحتية بعد حرب عام 1991، ولماذا لم يتمكن العراقيون، وفي ظل حكومة تحظى بالدعم الأمريكي، من تجديد مثل هذا العمل بعد حرب 2003؟ هل اعتنق العراقي الكونفوشية خلال المرحلة الأولى وتخلى عنها خلال المرحلة الثانية؟ كذلك لا تقدم الفيبيرية تفسيراً كافياً لوجود ماليزيا وحتى تركيا-رغم عثرات أردوغان- بين النمور الآسيوية، رغم أن أكثرية السكان في البلدين هم من المسلمين.
كان جون كيري على حق عندما أكد الحاجة إلى “مشروع مارشال” من أجل إنهاض المنطقة العربية.
ومن أبرز ميزات ذلك المشروع هو، في الماضي بصورة رئيسية، في الماضي بتحقيق المشروع الأوروبي، وفي إقناع الإدارة الأمريكية بفائدة الاندماج الإقليمي الأوروبي في التعجيل بنهضة القارة، وفي تمكينها من مواجهة التحديات العسكرية والاقتصادية التي كانت تحدق بها.
إن الدول العربية تملك الإطار الإقليمي، ومنذ سبعين عاماً، للاضطلاع بإنهاض المنطقة.
ولكن هل تملك المنطقة المال الكافي لتمويل مشروع مشابه لمشروع مارشال؟ وهل يستطيع القطاع الخاص في المنطقة العربية المساهمة في تمويل مثل هذا المشروع بحيث يمكن الاستغناء عن التمويل الخارجي له؟
أخيراً، لا آخراً هل تتوفر في المنطقة العربية، عندما تتوقف لغة الحروب، المناخات الدستورية والقانونية والضمانات السياسية التي تسمح بنجاح “مشروع مارشال عربي” لإعادة بناء المنطقة؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة تقدمها الحكومات والقطاع الخاص في الدول العربية.
بمقدار التعجيل بمثل هذه الإنجازات والالتزامات تتأهل المنطقة لدخول مرحلة تعميرها وتحويلها إلى أرض للوفرة والبحبوحة، بعدما تحولت إلى ارض للخراب والدمار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2165776

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165776 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010