السبت 16 أيار (مايو) 2015

إنهم لا يحبون مصر

السبت 16 أيار (مايو) 2015 par فهمي هويدي

إذا وقعت الواقعة وبدأ هدم “بيت مدكور” الأثري في حي الدرب الأحمر بالقاهرة، فلن يكون ذلك مفاجئا، وإنما سيصبح شاهدا على أن مسلسل اغتيال الذاكرة التاريخية لا يزال مستمرا.
جنبا إلى جنب مع محاولات طمس الوجه الحضاري للعاصمة المصرية. أتحدث عن اليأس والإحباط اللذين أصابا الغيورين على ذاكرة القاهرة التاريخية، ممن بحَّت أصواتهم وهم يطالبون منذ أكثر من عام بالإبقاء على آخر أثر للتاريخ في حي الدرب الأحمر، بعدما رفعت عنه الحصانة والحماية في ظروف مريبة. وصدر قرار بإزالته لتنتصب في مكانه واحدة من العمارات الأسمنتية الكئيبة التي تحولت إلى طوفان ما برح يجرف ما تبقى من عمائر وجماليات القاهرة التاريخية. تماما كما هدمت بعض المتاحف وخربت بعض الحدائق لصالح مشروعات المقاهي والجراجات وغير ذلك من تجليات الجشع وفساد الذوق التي أصبحت عالية الصوت وقوية الحضور في الأجواء الراهنة.
بيت مدكور الذي ينسب إلى أحد أعيان أو أمراء المماليك في القرن التاسع عشر تفوح منه رائحة إبداعات التاريخ، رغم أن الزمن جار عليه وفعلت فيه الشيخوخة فعلها، إلا أنه لا يزال شاهدا على العصر المملوكي الذي يمثل جزءا من تاريخ القاهرة وشخصيتها، علما بأن الشارع الذي أقيم فيه يرجع إلى القرن الرابع عشر، وقد سجل البيت باعتباره أثرا يتعين الحفاظ عليه في عام ٢٠١٠، إلا أن قرارا صدر في العام التالي أخرجه من دائرة الآثار وأوصى بهدمه بدعوى أنه معرض للانهيار، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والتجاذب مستمر حول مصير العقار الذي يتمدد فوق ٢٢٠٠ متر مربع.
ورغم أن قرارا صدر في عام ٢٠١٤ من قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار أكد الطابع التاريخي للبيت، إلا أن ذلك لم يمنع إصرار الورثة على هدمه في حين تعالت أصوات الداعين إلى إنقاذ القاهرة للتراجع عن إزالته، والإبقاء عليه باعتباره معلما أثريا، مع تعويض الورثة الراغبين في الهدم. ويبدو أن تلك الجهود التي كان من بينها مناشدة رئيس الوزراء للتدخل في الأمر، لم تحقق نجاحا، وأن ضغوط الاستثمار كانت أقوى، ومن ثم تقرر البدء في هدم العقار اليوم (السبت).
إذا وقع المحظور وتم الهدم، فإن بيت مدكور سينضم إلى قائمة الأبنية التي جرى التضحية بها لأسباب يجمع بينها غياب الحس الحضاري وإهدار قيمة التاريخ والمعرفة. في هذا الصدد تلقيت رسالة موجعة من خبير البيئة والسياحة الأستاذ محمود عبدالمنعم القيسوني حول المصير اليائس الذي أصاب ثلاثة متاحف مصرية حفلت بالكنوز النادرة والثراء الباذخ هي:
* المتحف الجيولوجي الذي بني عام ١٩٠٢ في شارع الشيخ ريحان بالقرب من ميدان التحرير، ومن الكنوز التي تضمنها هيكل كامل لحيوان خرافي من أكلة الأعشاب وصف بأنه وحش الفيوم (الأرسينوثيريوم) تشير الدراسات إلى أنه عاش هناك منذ ٢٨ مليون سنة. وهو أقرب إلى الخرتيت وأقدامه تشبه أقدام الفيل. وقد تم اكتشافه في أوائل القرن الماضي مع هيكل آخر تم إهداؤه إلى متحف التاريخ الطبيعي في لندن. وأثناء الحرب العالمية الثانية قام المسؤولون عن المتحف من خبراء مصريين وبريطانيين بنقل محتوياته النادرة ودفنها في رمال الصحراء المتاخمة للعاصمة، لحمايتها من احتمالات القصف (أعيدت كلها بعد الحرب إلى مكانها). وكانت من بين تلك المحتويات قطع من الكهرمان احتوت على حشرات منذ فجر التاريخ، وصخور نيزجية نادرة والعديد من الهياكل والحفريات التي عاشت على أرض مصر منذ ملايين السنين. هذا المتحف الذي كان فخرا لمصر وعلامة مضيئة على تراثها، تم هدمه منذ ٣٥ عاما لإقامة مترو الأنفاق، ورغم الإعلان آنذاك عن إقامة متحف آخر بديل إلا أن ذلك لم يحدث. ولم تكن تلك هي الكارثة الوحيدة، لأن الكارثة الأخرى التي لا تقل فداحة أن تلك الثروة الجيولوجية الهائلة نقلت إلى مخازن سابقة التجهيز تابعة لوزارة البترول على كورنيش النيل بالمعادي وضعت عليها لافتة «المتحف الجيولوجي». وزائر تلك المخازن ينتابه شعور بالخزي والعار لما آل إليه حال تلك الثروة النادرة، التي أصبحت ضحية الإهمال واللامبالاة، أما وحش الفيوم فقد عرضت رأسه فقط لأن المكان لا يسمح بعرض الهيكل كاملا، في حين جرى تخزين بقية أجزاء الجسم في صناديق مهملة.
* متحف العلوم الذي كان يقع في وسط العاصمة (في شارع البستان). وفيه كانت تعرض الاختراعات الحديثة إلى جانب التطبيق العملي لمختلف النظريات التي كانت تدرس بالمدارس، وضم المتحف خلاصة جهد علماء وخبراء في مختلف المجالات إلى جانب ما قدمته مؤسسات دولية عرضت أحدث التقنيات المطبقة في العالم. هذا المتحف تم هدمه لصالح بناء جراج البستان متعدد الطوابق والمحال التجارية، أما تجهيزاته وأجهزته فقد ألقيت منذ أكثر من ٢٠ عاما في مخزن مهمل بجوار أستوديو مصر بمنطقة الهرم.
* متحف العادات والتقاليد المصرية الواقع داخل مبنى الجمعية الجغرافية المصرية الغنية وبالكتب والخرائط النادرة، الذي يضم القاعة الذهبية الرائعة التي تم تشييدها في عصر الملك فؤاد وهو يحتوي على قطع نادرة ارتبطت بالحياة اليومية للمصريين وبعاداتهم وتقاليدهم وتراثهم منذ مئات السنين منها: الهودج المخصص لزفة العروسة ـ المحمل المخصص لنقل كسوة الكعبة الشريفة من مصر إلى مكة المكرمة ـ طاسة الخضة ـ صندوق الدنيا ـ قوالب صناعة عرائس المولد ـ أعلام الاحتفالات الدينية ـ كرسي الولادة ـ كوشة الفرح.. إلخ.. هذا المتحف الذي لا يعلم بوجوده معظم أبناء الشعب المصري جارٍ ابتلاعه ضمن مباني مجلس الشعب ومجلس الشورى لوقوعه بجوار هذه المباني وجارٍ حرمانه من التمويل الكافي لإدارته حتى تفشى فيه الإهمال وأصبحت حالته باعثة على الخجل.
حين يطالع المرء هذه المعلومات يكتشف أن شعار «حب مصر» حين يتم اختباره في الواقع العملي وحسابات المصالح، فإنه يتحول عند البعض إلى هتاف أجوف يردده في المناسبات العامة بعض اللاعبين في سوق السياسة. ذلك أن ما ذكرته ـ وهو قليل من كثير ـ لا يعبر عن أي مظهر من مظاهر الحب، لأن الذين يكرهون مصر لن يفعلوا بها أكثر مما يفعله هؤلاء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2178803

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178803 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40