الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010

السياسة .. إشكالية المفهوم والمصطلح

الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010 par د. حاكم المطيري

[**بينما السياسة اليوم لها مفهوم آخر تماماً، يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهوم السياسة في الفقه الإسلامي، فهي لا تعني الحزم وحسن الإدارة والتنفيذ، بل تعني التشريع ذاته كفرد من أفراد موضوعها، أي أن ما يطلق عليه عند الفقهاء قديما (الشرع) و(الدين) أو(الكتاب والسنة) صار جزءاً من أجزاء موضوع السياسة بمفهومها المعاصر، بعد أن كانت السياسة عند الفقهاء جزءاً من أجزاء الشرع، وفرعاً من فروعه! أي أن من يقول اليوم (لا سياسة في الدين) و(من السياسة ترك السياسة) كأنه يقول تماماً (لا دين في الدين) و(من الدين ترك الدين)!*]

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

فهذه نظرات في السياسة الشرعية وهي خطرات مما يعن في الخاطر في درس بهذا العنوان في الدورة العلمية التي ابتدأتها في مساء كل ثلاثاء بعد العشاء من شهري 5 و 6 سنة 2010 وقد رأيت ضرورة كتابتها وتحريرها لتعم الفائدة والله ولي التوفيق :

[**

الخاطرة الأولى : إشكالية الخلط بين مفهوم السياسة عند الفقهاء قديماً، ومفهومها المعاصر، وآثاره السلبية :

*]

وهي إحدى الإشكالات التي كان لها أسوء الأثر على ثقافة الأمة السياسية اليوم، حيث إن السياسة عند الفقهاء قديما تعني ما تمارسه السلطة والولاة والقضاة من حزم وحسن تدبير مما يحقق غايات الشرع ومقاصده، في باب الولاية وسياسة الأمة، مما لم يرد فيه تشريع من كتاب ولا سنة، ولهذا يقولون (حكم الشرع) و(حكم السياسة)، وعليه فالشرع عندهم هو كل ما فيه حكم من الكتاب أو السنة، وأما السياسة فهي حسن تطبيق الشرع على أعدل وجه وأكمل صورة، ولهذا جاء في الطرق الحكمية للإمام ابن قيم الجوزية (ص 3) :

(قال الشافعي ـ أي من هو على مذهب الشافعي لا الإمام الشافعي نفسه ـ : لا سياسة إلا ما وافق الشرع .. وقال ابن عقيل الحنبلي : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي)!

فالشافعية لا يرون الحزم وحسن التدبير والتنفيذ يخرج عن دائرة المشروع، وليس للولاة ولا للقضاة أن يتجاوزوا في كل تصرفاتهم السياسية حكم الشارع، وهذا بناء على قاعدة عند المتكلمين والأصوليين منهم بأن الأصل في الأفعال الحظر حتى يرد حكم الشرع، وهي قاعدة مبنية على أصل عقائدي عند الأشاعرة وهو المنع من التحسين والتقبيح العقلي، وأن لا حسن ولا قبح قبل ورود الشرع!

وأما ابن عقيل الحنبلي والحنابلة فيرون بأن السياسة هي كل تصرف وفعل يصدر عن السلطة من الخلفاء والأمراء والولاة والقضاة، يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح في أحوالهم وشئون حياتهم، وأبعد عن الفساد، وإن لم يرد فيه نص من الكتاب والسنة، لأن الأصل في الأفعال والتصرفات عندهم الحل والإباحة، إلى أن يرد دليل الحظر والمنع من الشرع!

فالسياسة عند الفقهاء هي ما يقابل الشرع، إلا إنها عند الشافعية يجب أن توافق أحكام الشرع، بينما عند الحنابلة يجب أن لا تخالف أحكام الشرع!

ولهذا قال ابن القيم (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق - فالشريعة جاءت بغاية العدل، ولا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح - تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، فإن السياسة نوعان، سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة هي عين الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها...فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه، بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، بل قد بين الله بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، ليست مخالفة له، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبع لمصطلحكم وإنما هي عدل الله ورسوله). [*[1]*]

فتأمل قوله بأن السياسة لا تخالف الدين، أو أنها جزء من أجزائه، وفرع من فروعه، لأن كل ما جاء فيه نص وشرع وحكم فهذا من الدين قطعاً، وليس من السياسة، وأما السياسة فهي حسن إدارة شئون الأمة على الوجه المشروع، أو على الوجه غير الممنوع شرعاً!

وهنا يظهر جلياً لمه شاع في الثقافة الدينية قول (من السياسة ترك السياسة)؟ ولمه شاع بين الفقهاء وفي أوساطهم العلمية عدم الاهتمام كثيراً بالسياسة والشئون السياسية؟

والسبب في ذلك لأنهم استصحبوا مفهوم السياسة في الفقه الإسلامي، وعند الفقهاء قديماً وهو (الحزم وحسن التدبير لشئون الأمة)، وهذا أمر من اختصاص السلطة وحدها، ولا ينبغي إشتغال الجميع به، وليست السياسة هي الشريعة ليهتم الفقهاء والدعاة، بها فالواجب الاهتمام بالشريعة وأحكامها، دون السياسة وأقسامها!

بينما السياسة اليوم لها مفهوم آخر تماماً، يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهوم السياسة في الفقه الإسلامي، فهي لا تعني الحزم وحسن الإدارة والتنفيذ، بل تعني التشريع ذاته كفرد من أفراد موضوعها، أي أن ما يطلق عليه عند الفقهاء قديماً (الشرع) و(الدين) أو(الكتاب والسنة) صار جزءاً من أجزاء موضوع السياسة بمفهومها المعاصر، بعد أن كانت السياسة عند الفقهاء جزءاً من أجزاء الشرع، وفرعاً من فروعه!

أي أن من يقول اليوم (لا سياسة في الدين) و(من السياسة ترك السياسة) كأنه يقول تماماً (لا دين في الدين) و(من الدين ترك الدين)!

أي صار كثير من المسلمين وعلمائهم أسرى ثقافة مفاهيم ومصطلحات لا وجود لها اليوم، فالسياسة بالمفهوم الفقهي القديم والتي أثرت سلباً على اهتمام كثير من المسلمين بشئونهم السياسية قديماً، لم يعد لها وجود، بل السياسة التي يعزفون عنها اليوم ولا يهتمون بها، هي التي تشكل اليوم دينهم وشرائعهم وقوانينهم، بعد أن كانت السياسة قديما مجرد حسن تصرف السلطة في تطبيق الشريعة والكتاب والسنة!

ولهذا فما نسميه سياسة اليوم هو ما يسميه الفقهاء قديماً (الأحكام السلطانية)، ولا يسمونها سياسة لأنها أحكام شرعية، فيها نصوص من الكتاب والسنة، بخلاف السياسة عندهم قديماً، فهي ما لا شرع فيه من تصرفات السلطة السياسية! وللحديث بقية..

[*[1] الطرق الحكمية 4 ـ 14 بتصرف يسير واختصار.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 63 / 2165285

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165285 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010