الأحد 15 آب (أغسطس) 2010

اليوم، ومنذ أربع سنوات، في ذروة المواجهة

الأحد 15 آب (أغسطس) 2010 par د. نهلة الشهال

يومنا الآن متصل في شكل غير مسبوق بذاك الذي مر علينا قبل أربع سنوات. ولكن قبلاً، أسترسل، واعتبر الاسترسال من صلب الموضوع : فجر 15 آب (أغسطس) 2006، بعد ساعات على إعلان وقف إطلاق النار بناء على قرار مجلس الأمن 1701 الذي وافقت عليه كل الإطراف المعنية، وبعد ساعات من قصف مروع في شكل خاص، كان ربما بمثابة محاولة «إسرائيلية» أخيرة لاغتيال السيد حسن نصر الله، أو كان حفلة وداع حاقدة، فجر ذلك اليوم، سيطر على بيروت ضجيج مختلط. زعيق أبواق سيارات وزغاريد وضحك وأناشيد وأصوات محركات متنوعة. رأيتُ عشرات ألوف الناس، رجالاً ونساء من كل الأعمار والشروط، يستقلون أي وسيلة نقل يقعون عليها للوصول إلى قراهم في الجنوب، وقد رسمت قوافلهم خطاً غير منقطع، بقي واحداً على طول الشاطئ قبل أن يتفرع كدلتا نهر عظيم. رأيتُ عشرات ألوف الناس غيرهم يهرعون إلى الضاحية الجنوبية لبيروت يتأملون المباني المهدمة وقد شعَّت وجوههم بوداعة غريبة، هي مزيج من ابتسامات رضا خفرة وسيماء اعتزاز: لقد غلبوا «إسرائيل»!

في تلك اللحظات، لا يعود مهماً أبداً ما سبق وما تلى. فتلك اللحظات تُسقِط، ولو لوقت خاطف، كل الحسابات. تعود الحسابات بعد ذلك بالتأكيد، «متسخة» باشتراطات الاجتماع الإنساني. ولكن عودتها لا تمحو التسامي المتحقق. نعم، هي خاطفة، ولكنها تُختزن في النفوس والقلوب وتجعلك تقول : عشتُ ذلك، سرتْ في دواخلي تلك الكهرباء، كنتُ هناك! كم مرة روى لي والدي ما شعر به لحظة أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس. هو سمع الخطاب من الإذاعة، وكان في كل مرة يصف بانفعال لم يمحه الزمن كيف حلَّقت روحه. والدي لم يكن ناصرياً، ومع ذلك! ما زلتُ كلما رأيت الشريط الوثائقي لتلك اللحظة، يختض جسمي من الانفعال.

كان والدي يعلم، كما أنا والجميع، ما سبق وأعقب. ولكن هل تمحو كل المساومات وكل الهزائم تلك اللحظة، كما يظن من يظن أنه «عقلاني»؟ بل لولاها لما مشى التاريخ مشيته المتعرجة تلك، ولما استمرت الفلسفات والأديان تناقش منذ آلاف السنين صراع الخير والشر، لما تحقق أي إبداع. سعيد من يُكتب له خلال حياته أن يصادف مثل تلك اللحظات، ومسكين بائس من لم يعشها، فقد فاته ما يقرِّب الإنسان من الملائكة!

وعلى ذكر عبد الناصر وتأميم القناة، نتذكر كيف كان الحدث نقطة تحول في تاريخ تلك التجربة، حيث طلب الرجل من واشنطن سلاحاً فتمنعت، فبحث عنه لدى السوفيات والصينيين وحصل عليه، ورد بالتأميم فردوا بالعدوان الثلاثي. ذاك أيضاً «يوم» يشبه يومنا اليوم، حيث تُصدر واشنطن بجدية، عقب حادثة العديسة، بياناً يقول إنه «لا دليل لديها» على استخدام الجيش اللبناني للسلاح الذي زودته به ضد «إسرائيل»! وكأن السلاح مبرمج لاستخدام آخر، وكأن عليه شروط يبطل دون مراعاتها. هل نبحث عن مصادر أخرى للسلاح، أو نشتريه باكتتاب عام كما دعا إلى ذلك رئيس الجمهورية؟ وهذه قد تكون واحدة من نقاط صوغ توافــق وطني في لبنان، فحتى أولئك الذين يتكلمون عن احتكار الدولة للسلاح يوافقون بالتأكيد على استحالة الالتزام بالـ mode d`emploi الأميركي، الذي نسي على ما يبدو قاعدة أساسية في كل تعاقد، تنطبق حتى على شراء مكواة، وتقول بعدم جواز حجب دفتر الشروط إلى ما بعد الاستخدام...

الذكرى الرابعة للعدوان «الإسرائيلي« على لبنان، صيف 2006، حلّت إذاً الآن وكأن جسراً انتصب أخيراً ما بين التاريخين. خلال الفترة الفاصلة، حارت «إسرائيل» ومعها أميركا في كيفية استعادة زمام المبادرة. كان مصدر الحيرة فشل العدوان نفسه. وهو فشل أسارع إلى القول، خشية تهمة «الانتصارية» البلهاء، إن ثمن تحقيقه كان بالطبع باهظاً على اللبنانيين. كيف فشل عدوان 2006؟ واحدة من غاياته العلنية كانت تأليب الناس على «حزب الله»، وإحداث الانشطار الداخلي الذي يعطل حركته.

تلك كانت المراهنة السياسية لكوندوليزا رايس، بالتلازم مع مراهنتها على التفوق العسكري لـ «إسرائيل». وللحق كانت المراهنة في محلها، لولا استماتة «حزب الله» في منع «إسرائيل» من تسجيل أي نصر عسكري، بل واستماتته في تسطير بطولات وانتصارات فات الأمريكان أن هناك تعطشاً لها مدفوناً تحت طبقات الإحباط الشائعة. وهكذا، وعلى رغم غيظ البعض، ورغم التأليب، ورغم الانتظار كل يوم، صمد المقاتلون، وأخطأت صواريخ «إسرائيل» قيادة «حزب الله»، وأحجم اللبنانيون بكل فئاتهم عن نصرتها.

إثر فشل العدوان، تطلب إعادة تركيب مسرح الأحداث هذه المدة، وقد اكتشف الفاعلون أن الأمر اعقد مما ظنوا، فاختاروا الأناة. جربوا مرة أسلوب القضم، حين اتخذت الحكومة اللبنانية قراراتها الشهيرة التي ولدَّت رد فعل 7 أيار (مايو) 2008. ففشل القضم، وكان لا بد من البحث عن ميكانيزم آخر يمكِّن واشنطن و«تل أبيب» - على ما بينهما من فوارق وتناقضات - من استعادة زمام المبادرة. فهما كانتا وسط نصف نجاح بعد أن حقق اتهام دمشق بدم الرئيس الحريري غرضه : خرجت القوات السورية ورسخت (ولو لفترة، قبل أن يعيد السذج اكتشاف الوقائع العنيدة فيتسابقون إلى دمشق في السر والعلن) موجة العداء لسورية، بل وما يشبه القطيعة التي كادت تصل أحياناً إلى إغلاق الحدود. ولكن ما حققه الانسحاب من اختلال استراتيجي في معادلة التوازن بقي معلقاً على هذا «المنجز» فحسب. وراح، كنصف نجاح، يتآكل. فتقرر اللجوء إلى لجنة التحقيق الدولية لاستعادة زمام المبادرة، بما يشبه تكرار ما حدث لسورية، ولكن بإحكام أكبر. وتلك ليست «مؤامرات» بل صراع يخوضه كل طرف بما ملكت ايمانه. فلو حقق عدوان 2006 أغراضه لما احتاج الأمر ذلك. ولو وافق «حزب الله» على اتهام «عناصر غير منضبطة» فيه بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، لاختلف سيناريو التتمة، كذلك لو لم يبن «حزب الله» اتهامه لـ «إسرائيل» على قرائن جدية وغير قابلة للإهمال... ولا يعني طلب تلك القرائن من قبل السيد بيلمار أن الأمر قد سوي، بل يمكن انتظار سياقات يجب أن تخطر على البال، وهي مفتوحة على مزيد من محاولات الإدانة والحفر في ما يقال له «الفتنة»، كما على التسويات.

ولا شأن للحقيقة بذلك، بل الشأن لمحصلة الصراع كما تنتج عن كل خطوة. وفي الأثناء، ستسعى «تل أبيب» بكل تأكيد إلى اصطياد السيد نصر الله، لو أمكنها ذلك، فتحسم الموقف من وجهة نظرها. كأننا اليوم، كما منذ أربع سنوات قبل اليوم، في ذروة المواجهة مع «إسرائيل».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2178447

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178447 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40