الخميس 19 آذار (مارس) 2015

خلق الإنسان

الخميس 19 آذار (مارس) 2015 par د. عبد الستار قاسم

قبل الدخول في موضوع الفرد والجماعة أرى أهمية التمهيد بالملاحظات التالية التي تساعد في وضوح المنهج العام الذي استندت عليه في البحث، وفي إلقاء ضوء على الجو العام الذي يسوده:

أولاً : بدا لي الإسلام عبر سنين وكأنه كم فقهي يفتقر إلى وعاء فكري متكامل أو نسيج شامل يشكل قاعدة للبناء في مختلف المجالات بما فيها القضايا الفقهية. وجدت في المكتبة الإسلامية ما يعزز هذا من حيث الكم الكبير من الكتب التي تتناول قضايا فقهية حياتية يومية دون القضايا الفكرية التي تحدد المبادئ الشمولية لسير الحياة الإسلامية. لقد انشغل المسلمون كثيرا في قضايا العبادات ذات الشعائر والمعاملات اليومية وصبغوا أغلب مؤلفاتهم بها. يجد الباحث في المكتبة الإسلامية كتبا كثيرة تتحدث عن الصوم مثلا وأحكام الوضوء، لكنه من الصعب أن يجد كتبا حول أهمية البحث العلمي في الإسلام أو تنظيم الكليات الجامعية. علما أن المعلومات حول الصيام والوضوء مكررة، وإن وجدت اختلافات بين الكتب فهي ليست جوهرية.

من خلال قراءتي للقرآن الكريم ( وما أعنيه بالقراءة ليس التلاوة وإنما الدراسة المتأنية ) وجدت أن اعتمادي على الأحكام الفقهية لفهم القرآن ليس كافيا ولا يشكل مقياسا حاسما. ووجدت أيضا أن الاعتماد على الإرث الثقافي بمختلف مشاربه يساهم في تحسين المعرفة وتطويرها لكنه لا يشكل حدا نهائيا للتحصيل المعرفي والعلمي. فضلا عن أن التراث له وقع يأسر القارئ المسلم وذلك نتيجة تركيز العديد من الكتاب المسلمين عليه واعتباره المرجعية النهائية لفهم الإسلام. لقد تم التركيز عليه حتى بات المرء يظن أنه هو الإسلام نفسه وليس مجرد إبداعات إسلامية يمكن أن يبنى عليها وتتطور. يحاصَر المسلم بهذا الشعور الذي اعتقد أنه بني على أسس غير علمية لم تخدم الإسلام والمسلمين.

لقد تناقلنا عن المتوارث أن الإسلام نظام كامل متكامل وهو مستقل بذاته ومتميز عن النظم الأخرى وتنبثق عنه نظم سياسية واقتصادية واجتماعية. قيل للأجيال أن النظم موجودة في التراث والكتب المأثورة ولا داعي لمواصلة البحث لتطويرها، وكان على المسلم أن يلتزم وان يطور عبر الزمن موقف مراقبة الذات من خلال الخوف من الدخول بما أخذ يظنه أنه محرم. حسب عبد الحميد أبو سليمان، فقد تم ترويض المسلمين بطريقة أصبحوا معها لا يجرءون على تحليل التراث والمقدسات مما جعلهم في رؤية غامضة حول قضايا دينهم. ويضيف: " لقد شل ما غرسناه في أنفسنا من معاني الخوف والرهبة وانعدام الثقة بالنفس قدرتنا على النظر في أحداث الماضي وملابساته ونقائصه، ولذلك ظل العقل المسلم حتى اليوم أسير مفاهيم ومنطلقات أساسية تجعله حبيس أخطاء الماضي وانحرافاته ... (1).

هذا ويصاحب حملة تمجيد التراث وحصر الإسلام فيه حملة التبجيل المتواصل للإسلام بهدف ترغيب القارئ فيه . هناك كتب كثيرة ترتكز أساسا على أفكار المؤلفين السابقين وتسهب كثيرا في عبارات التشويق والاستحسان إلى درجة يضيع فيما بينها الموضوع وتحتار الفكرة . ومع هذا هناك إطناب في ذم الغرب والحضارة الغربية بحيث يشعر الكاتب أحيانا أن الغرض من الكتابة هو الإسقاط وليس تقديم أفكار وقضايا . أي أن بعض الكتاب يحاولون جذب القارئ إلى الإيمان من خلال صب اللعنات على الحضارة الغربية . وبين طيات هذا الموقف لا يقدم الكاتب إلا أفكارا ضعيفة لا ترتقي إلى مستوى المنافسة التي تستقطب أو تقنع العقول . وقد وصف أحد المؤلفين هذا الوضع قائلا بأن المسلمين اكتفوا بمحاربة الاستشراق والحديث العاطفي عن الإسلام ، والتحذير من الغزو الغربي ، ولم يظهر منهم إلا الأصوات العالية (2) . الصوت أقوى من الفكرة والسيف أطول من القامة ، وعلى المسلمين أن يعيدوا النظر بما يصنعون ويعوا بأن أحسن تشويق للإسلام هو تقديم المعلومات بقالب علمي يطرح حلولا لمشاكل الناس وهمومهم ، وأن مواجهة الحضارات لا تتم بالاسقاطات وإنما بتقديم الإنجازات التي تثبت نجاح الأفكار .

ثانياً : النظام الإسلامي كما يبدو من خلال طرح عدد من الكتاب عبارة عن تعبير عام معالمه ليست واضحة تماماً ، وفروعه ليست محددة التعريف . كثيرون هم الذين يتحدثون عن نظام الإسلام لكن التعبيرات ما زالت متباينة والمعاني غير متفق عليها ، وأكثر الكتب التي تتناول الموضوع تتحدث عن خواطر وأفكار بدلاً من تقديم قواعد ومبادئ متشابكة تشكل نسيجاً واحداً . على الرغم من أن هناك محاولات جادة نحو استنباط نظام إسلامي شامل ونظم ثانوية تتفرع عنه ، إلا أنها لم تقطع شوطاً طويلاً بعد . جرت في الماضي محاولات خاصة فيما يتعلق بمسألة الخلافة وأسس الحكم لكنها لم تستنفذ مختلف القضايا الجوهرية ، وما زالت الحركة السياسية العالمية تواجه المسلمين بالكثير من الأسئلة التي تتطلب الإجابات .

لا أجد أنه من الصواب استنباط نظام يطلق عليه صفة الإسلامي واعتباره ثابتاً على مدى الأزمان والأجيال ، بل من الممكن استنباط نظام لكنه متحرك وقادر على التعامل مع مختلف التطورات والأحوال . ذلك أنني لا أرى إمكانية وجود فهم إنساني ثابت للقرآن الكريم بسبب محدودية الإنسان وعدم تمكنه من الوصول إلى حدود معرفية مطلقة . المحدود لا يرتقي إلى فهم كلية اللامحدود أو المطلق وهو كلام الله عز وجل ، ولا أرى أن الباحثين يستطيعون الوصول إلى نتائج قاطعة تتجاوز الحدود المعرفية لمراحلهم التاريخية بمسافة كبيرة . فما دام المنطلق يبدأ من حدود معرفية معينة فإن التجاوز يستند عليها ولا ينفصل عنها . لذا يمكن أن تكون نتائج بحث علمية مطلقة فقط ضمن حدود الزمان والمكان ، وهي لا تلبث أن تصبح نسبية مع توسع الحدود المعرفية واتساع الآفاق العلمية . بمعنى أن الفكر الإسلامي غير خاضع لمعيار الثبات وإنما متحرك بصورة تصاعدية وذلك تبعاً لجهود الباحث الإسلامي وتقدمه المعرفي . أي أن ما أتقدم به من جهد الآن لا يعدو كونه خطوة ستتلوها خطوات باحثين آخرين ، والجهود تبقى تتراكم ويتطور إنتاجها . لكن يبقى من المهم ألا يتجاوز الباحث باحثاً سبقه على اعتبار أن الماضي لا قيمة له إذ في هذا خطأ علمي كبير . معيار الثبات ينطبق على القرآن نفسه وليس على الفهم الإنساني له .

ثالثاً : هناك مقولة تنص على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، ويبدو أنها بحاجة إلى جهود كبيرة للمحافظة عليها خاصة أن عدداً من المتمسكين بها لا يصلحون لكل زمان ومكان ، وبعضهم ربما انتمى إلى زمان قد مضى وإلى مكان لم يدخله الكثير من النور . إن من يؤمن بهذا عليه أن يدعم إيمانه بالعمل حتى لا يبقى كلامه مجرد شعار لا يعرف طريقاً نحو التنفيذ . من جانبي ، أرى أن المقولة صحيحة من الناحية الإيمانية لأن من يؤمن بالله يؤمن بالضرورة أنه لا يصدر عنه إلا الحق ، والحق صالح لكل زمان ومكان . لكن الوقوف عند هذا الحد لا يكفي ، بل يجب أن يقتنع المشاهد أو المستمع بأن ما يقال صحيح. أما إذا اكتفى المرء بالقول ، أو قام بأعمال انتمت إلى زمان غير الزمان ومكان غير المكان فإن قوله يرتد ضده مما يلحق الأذى بالمسلمين عموماً وينعكس سلباً على صورة الإسلام . هذا ليس من شأنه أن يزعزع الإيمان في قلوب بعض المسلمين فحسب وإنما يمتد ليؤثر سلباً على انطباعات غير المسلمين عن الإسلام .

حتى تبدو المقولة صحيحة لا بد من تناول المعضلات الفكرية المختلفة خاصة تلك التي تسود في زمان ومكان معينين وتشكل بالنسبة للناس اهتماماً أساسياً. المفكر أو الفيلسوف أو الدين يستنفذ طاقته ومبرر وجوده إذا لم يكن من شأنه معالجة شؤون الناس وهمومهم ووضع الحلول لحياة إنسانية مطمئنة وهادئة . من يفصل نفسه عن الناس يفصل الناس أنفسهم عنه ، ومن يقبع في صومعة يتنسك فإن نسكه لنفسه لا يقطف أحد من ثمارها شيء ، إن كان لها ثمار . لهذا فإنه من الضروري للمسلمين أن يواجهوا المعضلات المختلفة ليقدموا للناس ما يرونه من حل إسلامي يؤدي إلى الغايات المرجوة . فالإسلام ، كما أراه ، ثابت الأصول ، متجدد الرؤية والاجتهاد ، ويحمل في داخله اتجاهات التجديد ، وهو لا يضيق بمسلمين يعقلون ويتفكرون ويتدبرون .

رابعاً : عانى المسلمون عبر قرون من الربط الجامد بين اللغة والفكر واعتبروا أن التعبير اللغوي التاريخي هو افضل تجسيد للفكرة وأن تجاوزه يقود إلى الوقوع في المعاصي . وخلت قلوبهم من إضفاء الحيوية على عملية الربط ومن إعطائها مرونة الحركة التي من شأنها مواكبة التقدم الإنساني في مختلف مجالات الحياة . وبذلك ظهرت الأفكار الإسلامية وكأنها تمسمرت عند نقطة معينة أو تقولبت بجمود عند حد تاريخي معين ، وكأنها تجر المؤمنين بها إلى الخلف ولا تدفعهم نحو المستقبل . لقد تعرض العربي والمسلم على حد سواء إلى استدخال الرعب من الجديد حتى ظن أن كل جديد مهما صغر يقود إلى غضب الله ومن ثم إلى الجحيم . وقد شمل الاستدخال اللغة والفكر معاً بحيث عزز جمود كل منهما جمود الآخر .
جمود اللغة لا يؤدي إلى فهم إنساني متصاعد للحق الوارد قرآنيا لأن اللغة بذلك تعجز عن التعبير عن أفكار جديدة قد يصل إليها مفكر ، وجمود الفكر لا يقود إلى تطوير اللغة لأنه يضغط عليها من أجل تطوير متطلبات تعبيرية جديدة . ولا بد أن قارئ القرآن يعي تماما الإعجاز القرآني وهو يكمن ، فيما يكمن فيه ، في دقة التعبير اللغوي بحيث صيغت التعاليم بمعاني محددة وعلى المسلمين العمل باستمرار على استيعابها ، ووصفت النواميس بطريقة تشجع الإنسان على البحث والتمحيص.
القرآن ليس كتابا في الأدب لكي يسرح فيه الخيال ، وإنما كتاب حق ينشط في محاولات تدبره وفهمه العقل والفكر . ولهذا فان التدقيق في كل كلمة منه مهم ، وكذلك في كل حرف وكل وقوف . وحتى يتطور فهم المسلمين لما يؤمنون به فان عليهم إخراج اللغة من قفصها التاريخي بحيث تكون المعبر عن التاريخ وتطوره وليست أسيرة له . بهذا يتطور الاعتماد المتبادل بين اللغة والفكر ويصبح كل منهما عنصرا مساعدا للآخر سواء من ناحية التعبير عن الفكرة أو من ناحية تطوير اللغة لتكون أداة سلسة في التعبير عن الفكر . جمودية اللغة خطرة على التطور الفكري، وجمودية الفكر تعاكس حركة التاريخ . وكما يضعها محمد أركون أن الجمودية تسحب فهمنا للقرآن والحديث نحو “اللغة التشريعية والقانونية والمعيارية : أي نحو الحرفي الوضعي .” (3) هذا ويعتبر زكي نجيب محمود أن تخلف اللغة يؤثر على التقدم العلمي ويرى أنه يجب تطوير اللغة بحيث ترتقي إلى مستوى التفكير العلمي، وإخراجها من وظيفتها الترنيمية . (4)

خامساً : يقع بعض المسلمين الذين يتطلعون نحو التقدم انطلاقا من التجربة الغربية في أغلوطة عندما يحاولون ترغيب الناس بالأنماط الغربية بناء على تبريرات إسلامية ، فيقولون مثلا أن الإسلام ديمقراطي لأنه نص على الشورى ، أو أنه اشتراكي لأنه فرض الزكاة . تعيد مثل هذه الأغلوطة السابق إلى اللاحق وتنفي ضمنا استقلالية الإسلام كنظام أو إمكانية أن يكون كذلك . أي أن القائل بهذا ينفي الإسلام من خلال استعماله كمبرر ويؤكد ضمنا تفوق أنظمة أخرى . المبرر منفي لصالح نتيجة مشمولة أصلا في صدر الأغلوطة ومهيمن عليه في عجزها .

مثلما يمثل هذا الأمر خروجا عن فلسفة العقلانية ، يمثل الرافضون للدراسة المقارنة هروبا يحجب الإسلام عن معترك الجدل الفكري العالمي . يؤدي الانعزال عن التطور الفكري العالمي إلى خمول في الفكر ويبقى “المفكر” عالة على الماضي يستنجد به انفعاليا وعاطفيا . وإذا تمسك علماء المسلمين بموقف سلبي مسبق من التطور المعرفي للإنسان فانهم لن يجدوا أمامهم سوى البحث في كتب التاريخ ليروا أنفسهم من خلالها بدون تحقيق إنجازات حقيقية .

وكما سنرى خلال البحث ، التوازن هو الركيزة الأساسية للفكر الإسلامي ، وان الخروج عن نقطة التوازن أو محوره عبارة عن زيغ يقود إلى اندثار أو طغيان يقود إلى هلاك . من هذه الزاوية ينظر إلى هذا البحث . فهو ليس جريا وراء حضارة عالمية تلغي الإسلام ، ولا هو عداء لها يعزل الإسلام . أنه بحث يناقش قضية فلسفية ما زالت حاضرة بقوة الآن وستبقى كذلك في المستقبل . إنها قضية هامة أن لم تكن حاسمة في فهم الطرح الإسلامي وكيفية ترتيبه للعلاقات .

الإنسان والفرد لغوياً

لا يرد في القرآن الكريم كلمة فرد أو الفرد ، ولا حتى كلمة شخص وإنما ترد كلمتا فرادى وفردا . قال تعالى : “ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون .” (5) وقال : “قل إنما أنا أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد .” (6) وتقول آية أخرى :“ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .” (7) وتنص أخرى : “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .” (8) ويرد في القرآن كلمات مفردة مثل المؤمن والكافر والمنافق للدلالة على صفات عقائدية وحالات ذهنية تنبثق عنها سلوكيات للناس أو للواحد منهم . وبصورة عامة يلاحظ قارئ القرآن الكريم أنه لا يوجد خطاب واضح موجه لواحد منفصل ، أو أنه يعطي انطباعا بأن هناك تعاملا مع أفراد يمكن أن يشكل الواحد منهم هوية منفصلة عن الآخرين . الآيات المشار إليها أعلاه تتحدث عن موقف أو حالة مادية للشخص المعني ولا تتحدث عن حالة ذهنية . لكن الآية الأولى تتحدث عن الخلق أول مرة وأنه كان فرادى . فهل كان هناك خلق آخر غير الخلق الأول ؟ سنرى ذلك .

الخطاب في القرآن الكريم موجه لكل الناس جماعات وآحادا لكن دون أن تكون هناك رؤية للتعامل الانفرادي أو الشخصي أو ميل نحو العزل أو الإفراد . بمعنى أن الخطاب حتى لو وجه إلى المؤمن أو الكافر أو أي أحد يحمل أي صفة أخرى يبقى موجها إلى الواحد ضمن الإطار العام أو ضمن حالات ذهنية تشكل الأرضية المسبقة للسلوك الإنساني .

أما في السنة فقد ورد في الحديث إن صح نقله ،“لا تعد فاردتكم” بمعنى أن الزائدة على الفريضة لا تضم إلى غيرها فتعد وتحسب. لم ترد ، حسب معرفتي، كلمة فرد في الحديث وجاءت كلمة فاردة هنا بمعنى خارج ما يعد .

وردت كلمة فَردَ أو ما يشتق منها في التراث بخاصة في الادب العربي . فكان يوصف الحيوان المبتعد عن القطيع بالفارد ، فقيل ظبية فارد بمعنى انفردت وحدها وابتعدت ، وغالبا ما استعمل التعبير فيما يخص حمر الوحش . يقول لسان العرب أن هذا المعنى يجري على الشجر فيقال سدرة فاردة أي انفردت عن سائر السدر . هي ليست مع الجماعة ، وليست متميزة عنها فقط وإنما بعيدة أيضا . وكذلك بالنسبة للنجوم المسماة بالدراري التي تطلع في آفاق السماء وذلك بسبب ابتعادها أو تنحيها . وإذا قال المرء استفردت الشيء فانه يعني أخذته فردا لا ثاني له ولا مثل.

إجمالا يقول لسان العرب أن الفرد يعني أنه لا نظير له. أي أن الأفراد ليسوا نظراء ولا أمثال بعضهم البعض . أما القاموس المنجد فيعيد كلمة فرد إلى أصلها الثلاثي فَرَدَ والتي تعني اعتزل وتنحى ، أي اعتزل الناس . المعاني التي يسوقها لسان العرب أكثر دقة من المنجد خاصة أنه يميز بين الكلمات ويبتعد عن التفسير الذي يعتمد المترادفات . الاعتزال ليس عملا تلقائيا بدون خلفيات اجتماعية أو سياسية أو غيرها وإنما يستند على بعض الخلافات في الرأي أو العقيدة أو المنهج أو أي سبب آخر يثير في المرء شعورا بالتميز عن الآخرين ورغبة بالابتعاد عنهم. هذا يختلف عن المعنى الذي تشمله كلمة فرَدَ من حيث أنها تعبر عن سلوك غير مستند على ظروف اجتماعية حسب ما يورده لسان العرب . فالاستعمال التراثي للكلمة من حيث الحيوان فارد والشجرة فاردة لا يأخذ البعد الشعوري بقدر ما هو فعل تلقائي له أسباب طبيعية وليس اجتماعية . عزل واعتزل تختلفان جوهريا عن فرَدَ . عزل عبارة عن فعل يقوم به شخص بخصوص شخص آخر أو شيء واعتزل تعبر عن قرار واع ناجم عن سبب واضح له علاقة بالنشاط الاجتماعي للإنسان . أي أن عزل واعتزل تعبران عن نتيجة تفاعل إنساني من نوع ما ، لكن فرد تعبر عن غياب التفاعل البيني لصالح التأصل السلوكي الداخلي.

بما أن كلمة فَرْد مشتقة من فَردَ فهي تعبر عن سلوك إنساني تتأصل فيه نزعة الشعور بالتميز والانفصال ، إنها نزعة طبيعية غير متعلقة بظروف وغير مكتسبة. أي أن الفردية تخرج عن نطاق التفاعل الإنساني البيني وعن دائرة تباين الآراء أو تضاد المعتقدات والعقائد لتكون توجها إنسانيا حتميا لا مفر منه ، ولتعبر عن سلوك طبيعي غير مرتبط بظروف أو واقع مادي . وهذا يعني أن الفردية تحجب الرؤية الجماعية أصلاً ، وان توجه الشخص ، إن وجد ، نحو جماعة أو مجموعة مرتبط أساسا بما يحتمه عليه توجهه الطبيعي . أي أن عمله الجماعي ليس في الحقيقة عمل جماعي وإنما عمل فردي يبدو وكأنه عمل جماعي . إنه نتاج عمل فردي يتطلب جهود الآخرين أو يدفع إلى التعاون معهم ليس بقصد التعاون . وكأن التعاون عبارة عن آلية يستخدمها الفرد كأي آلية أخرى بدون أي بعد إنساني .

أما إذا أخذنا كلمة إنسان فإنها تعود إلى أصلها الثلاثي أنسَ وذلك حسب لسان العرب والمنجد . أنس هي نقيض توحش . يقول لسان العرب أن الإنس هو خلاف التوحش وهي مصدر القول أنِسَ ، ومنها جاء الإنس وهي جمع إنسي . والإنس هم الناس . تأتي من الكلمة كلمة إنسان والتي تعني عدم التوحش واللقاء مع الآخرين. أي أن الفعل أنس أن يأنس لا يتم إلا بوجود طرف آخر غير الذات ، بمعنى أنه لا بد من وجود لقاء بين طرفين أو أكثر . الإنسان لا يأنس نفسه وإنما يأنس غيره لأن الأنس ليس من منبع ذاتي وإنما منبعه خارجي . فكل إنسان يشكل عامل أنس بالنسبة للآخرين .

بعض اللغويين والمؤلفين يرون أن كلمة إنسان مشتقة من الفعل نَوَسَ ومصدرها نوْس . (9) النوس حسب لسان العرب هو التذبذب ، ويقال الرجل نواس إذا اضطرب . ويقال ناس لعابه أي سال واضطرب . وقد اشتقت منها كلمة إنسان حسب البعض مثل المصباح المنير ، (10) لأن الإنسان كثير الحركة والنشاط . لكن هذا الرأي ضعيف والباحث هنا لا يميل إليه لأن هناك كائنات وحيوانات تتحرك كثيرا وربما أكثر من الإنسان مثل القرد والأسماك ومنها ما هو دائم الحركة مثل الكواكب. صفة الحركة لا تميز الإنسان عن غيره إلا إذا أضيفت لها صفة الواعية، وإذا بقيت هي المعيار في إطلاق الاسم فمعنى ذلك أن مخلوقات كثيرة ينطبق عليها الاسم . ولهذا يتعامل البحث مع المعنى الأول على أنه هو الصحيح وستتضح لنا من خلال البحث أسباب أخرى لهذا الترجيح .

وإذا حملنا المعنى بصورة أقرب إلى المفاهيم الاجتماعية نرى أن الإنسان هو القادر بالطبيعة على إقامة العلاقات مع الآخرين ، وبما أن هذه العلاقات ذات صفة ارتياحية أن باعثة على الطمأنينة فهي هادفة . وإذا كانت هادفة فهي عاقلة . أي أنها طبيعية ولكن يبرمجها العقل حسبما يرى مناسبا لتحقيق الهدف . بعبارة أخرى، يقيم الإنسان علاقات آنسة بالطبيعة لكنها علاقات عاقلة تحمل في داخلها حرية الاختيار (حرية اختيار نوعية العلاقة ومداها ومع من ، الخ). أي أن الإنسان آنس بالطبيعة ولكن ليس على النمط الحيواني الذي يجمع القطيع معا بصورة مبرمجة غير واعية بالنسبة لها .

هنا يتحد الواعي والطبيعي، الذاتي والموضوعي . لا توجد حرية اختيار بالنسبة للإنسان فيما يتعلق بالاجتماع أو إقامة علاقات مع الآخرين ، لكنه يملك حرية الاختيار ضمن هذا المبدأ . هناك ميل طبيعي نحو الاجتماع ، لكن ضمن هذا الميل تكمن حرية الإنسان في الاختيار . فهو يستطيع أن يمارس حريته ضمن الطبيعي، وبذلك لا يتولد لديه شعور بالاغتراب لأن الطبيعي عبارة عن جزء منه ، ولو كان للإنسان أن يختار ضمن ما هو طبيعي لاختار الطبيعي ، إنه جدل ضمن الذات منعكس على الذات . على أية حال هذه الوحدة الواردة إسلاميا ستتضح بصورة أفضل في الصفحات القادمة .

بناء عليه ، هل بالإمكان أن نقول الإنسان الفرد ؟ الكلمتان إذا أعدناهما إلى أصليهما الثلاثي عبارة عن قطبين متنافرين لا يجتمعان . فإما إنسان يأنس بالآخرين وإما فرد يتميز وينفصل عن الآخرين . التعارض بينهما واضح بحيث لا يمكن أن يجتمعا . فإما إنسان وإما فرد ، ولا يبدو صحيحا من الناحية اللغوية أن نصف الإنسان بالفرد أو الفرد بالإنسان إلا ضمن موقف انفرادي لا يعبر عن الحالة الذهنية للإنسان . إنهما يحملان معنيين مختلفين ولا يجوز الجمع بينهما على أنهما واحد . تنقلنا اللغة إلى البعد الفلسفي للكلمتين بحيث يتضح التناقض القائم في الاستعمال الذي يهدف إلى تحميلهما نفس المضمون .

الإنسان كزوج

إذا ناقشنا الاجتماع الطبيعي الوارد لغويا من زاوية إسلامية فان النتيجة أعلاه تتعزز وذلك من خلال الخلْق الوارد في القرآن الكريم . الخلق حسب القرآن لم يكن خلق أفراد وإنما خلق أزواج إذ تقول الآية :“وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى”.(11) علما أن الخلق الأول كان فرادى ، وكما سنرى هناك خلق بعد خلق . لم يخلق الله فردا ذكرا وفردا أنثى وإنما زوجين : زوج ذكر وزوج أنثى . (كلمة زوج في اللغة تصف الذكر والأنثى على حد سواء ). وقال تعالى : “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .” (12) حتى أن خلق الزوجين كان من ذات النفس وذلك حسب الآية: “سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون”.(13) وفي آية أخرى يقول لنا سبحانه وتعالى أن الخلق كان من نفس واحدة ثم جُعلت الأزواج . والجعل عبارة عن تغيير في الصيرورة أي تغيير فيما خلق أصلا . تقول الآية : “خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل من الأنعام ثمانية أزواج ....” (14) الزوج ليس فردا وإنما واحد مكمل لآخر . وبذلك يكون الزوج غير مهيأ لأن يعيش منفردا . ليس بإمكانه أن يفعل ذلك حسب خلقه الذي هو طبيعته . من المكن أن يعيش وحيدا بحيث لا يكون معه زوج لكنه لا يفقد أهليته الطبيعية والتي هي زوج . أما أن يكون فردا فذلك ينفي الأهلية الطبيعية التي يتحدث عنها القرآن إلا إذا كان معبرا عن وضع يوجد فيه المرء وليس حالة ذهنية أو موقف معنوي . الأمر لا يقف عند الأزواج بل نعرف من القرآن الكريم أن الله سبحانه جعل الناس شعوبا وقبائل . أي أن تجمع الأفراد على هيئة قبائل وشعوب عبارة عن جعل إلهي إنه من صنع الله سبحانه وهو جعل ، أي عبارة عن فعل تلا عملية الخلق . يقول سبحانه مخاطبا الناس : “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير.”(15) في هذه الآية ما يقطع بصورة باتة أن الإنسان لا يمكن أن يكون فردا لأنه بالخلق عبارة عن زوج وبالجعل عبارة عن عضو في قبيلة أو شعب . وفي هذا ما يبين موقف الإسلام من طروحات تكون المجتمعات والتي اعتمدت لدى أغلبية الفلاسفة على مبدأ الحاجة أو الضرورة . تكون المجتمعات ( الشعوب والقبائل ) في الإسلام طبيعي ، أي أنه عبارة عن أمر الهي بصورة جعل . وإذا كان للحاجة أو الضرورة دور فإنهما عبارة عن آلية أو أداة وليستا سببا .

القارئ لبعض المؤلفات الإسلامية يقع في نوع من الحيرة إذا حاول التدقيق في المعاني . فمثلا يتحدث أحد المؤلفين عن حقوق الإنسان في الإسلام ويقول أن للفرد قيمة كبيرة في الإسلام ويستشهد على ذلك بالآية “من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .” (16) ويكرر كلمة فرد وبدون حذر في الخلط مع كلمات أخرى ، ومن الملاحظ أن كلمة نفس قد استعملت لتعني فردا بينما الفرق بينهما واسع . ويضيف نفس المؤلف حول تكون ما يسميه بالجماعة الإنسانية قائلاً بأن ذلك يعود إلى الحاجة بخاصة إلى لقمة الخبز .(17) واضح أن ما جاء في القرآن الكريم لا يؤيد هذا الكلام وأن مقولة المؤلف تتفق مع مقولات عدد من الفلاسفة مثل أرسطو.

الإنسان والبشر

قبل البحث في الإنسان كمفهوم لا بد من الإشارة إلى أهمية عدم الخلط بينه وبين البشر . في كثير من الأدبيات العربية الإسلامية منها وغير الإسلامية يحصل خلط بين كلمتي إنسان وبشر وتستعملان بصورة متبادلة لتعنيا نفس الشيء . حتى أن بعض الكتاب يستعملون كلمة بشرية لتعني إنسانية وبالعكس ، وبعضهم يصف المجتمع بالبشري أحيانا وبالإنساني أحيانا أخرى ودون أي تمييز في المعنى .

يخلط الدكتور محمد البهي بين تعبيري البشرية والإنسانية في كتابه الدين والحضارة الإنسانية . وكذلك يفعل رضوان السيد الذي يقول أن القرآن هو كتاب مرحلة جديدة في حياة البشرية .(18) أما الدكتور أمير عبد العزيز فيخلط مختلف التعبيرات الواردة في القرآن بعضها ببعض ويقول “وبعبارة أخرى فان الفطرة البشرية لهي جماع التركيب النفسي والروحي والعقلي والعضوي للإنسان وما يتمخض عن ذلك من أفرع وجزئيات أصيلة بعيدة عن كل مظاهر التكلف والاصطناع .” (19) أما عبد الكريم العثمان فيقول أن الغزالي استعمل ألفاظ النفس والقلب والروح والعقل للدلالة على ما يسميه النفس البشرية .(20)

من خلال قراءتي للقرآن لا يبدو أن هذا الخلط صحيح وهو بحاجة إلى مراجعة وتدقيق . كما سبق وأشرت ، القرآن ليس كتابا في الأدب يستعمل كلمات متنوعة بهدف إضفاء صفة جمالية تعجب القارئين . أنه كتاب حق يقدم الحقائق للقارئ بلغة دقيقة ولا يجوز إحلال كلمة مكان أخرى ولا يجوز تفسير كلمة واحدة بكلمة واحدة لأن في ذلك ترادف . الترادف غير وارد في القرآن وأرجح أنه غير وارد في اللغة أيضا . هناك كلمات تقترب معانيها من بعضها البعض وقد تكون متقاربة جدا لكنها لا تتطابق . حسب طاقتي على تفسير الأمور ضمن الحدود المعرفية التي تقيدني أرى أن الآيات القرآنية تشير إلى اشتراك البشر والإنسان في الخلق والوجود المادي لهما ، لكن الإنسان يتعدى البشر في الأمور فوق المادية أو بالتحديد في القوة العقلانية . الآيات التي تبين هذا كثيرة لكنني سأكتفي هنا ببعضها.

تقول الآية : “وإذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.”(21) في هذا إشارة واضحة إلى المادة التي خلق منها البشر وهي ذات المادة التي خلق منها الإنسان وذلك حسب الآية : “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون .” (22) لكن البشر الذي خلق من صلصال من حمأ مسنون خضع لعمليتين أخريين بعد الخلق وهما التسوية ونفخة الروح . وهذا واضح من الآية التي تتحدث عن أمر الله للملائكة بالسجود وتنص : “إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”.(23) أي أن القيام بالسجود كان مطلوباً بعد نفخة الروح . ويتضح لنا أن نفخة الروح هذه هي الحد الحاسم بين البشر والإنسان وذلك من خلال تبرير إبليس لعصيانه أمر الله . فقد قال إبليس حسب الآية الكريمة : “قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون”.(24) أي أن احتجاج إبليس كان على مسألة الخلق قبل التسوية ونفخة الروح وليس بعدهما ، وقد عرف البشر بهذا الخلق فقط وليس بما تبع . أي أن إبليس لم يحتج على ما طرأ على البشر وإنما على ما سبق الفعلين وتجاهل الفعلين.

تشير آيات كثيرة إلى البشر كوجود مادي . تقول إحدى الآيات : “قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ...” (25) وتقول أخرى : “... ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون .” (26) وتنص أخرى :“... قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا...” (27) وأخرى تقول: “فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا ...” (28) وغير ذلك آيات كثيرة وهي تعني الهيكل الجسماني والتكوين المادي للبشر وما يتبع ذلك من حركة ونشاط يتعلقان بالحياة العضوية له . تؤيد عائشة عبد الرحمن هذا الاستنتاج وتفتتح كتابها بعبارة أن الإنسان في القرآن الكريم غير البشر . وتضيف أن البشرية هي المادة الآدمية التي تتحرك وتأكل .(29) بعبارة أخرى هي ذات التركيب العضوي وذات المتطلبات العضوية .

يشترك الإنسان مع البشر بهذا الوجود لأن البشر عبارة عن تجسيد مادي للإنسان ، لكن الإنسان يتعداه إلى ما فوق النشاط الخاص بالحياة العضوية ليشمل العقلنة . ولهذا لا يخاطب الله عند إصدار أوامره وتعاليمه البشر وإنما يخاطب الناس أو المؤمنين ، وعندما يتحدث القرآن عن الأمور المعنوية يذكر الإنسان وليس البشر . فمثلاً يصف القرآن الإنسان بالظلوم الكفار ،(30) وهو يوصيه بالإحسان لوالديه .(31) ويوجه الخطاب للناس قائلاً :“يا أيها الناس اعبدوا ربكم ...” (32) ولا يقول في أي موقع أيها البشر . الخطاب العقلاني للناس والإنسان أما الحديث عن الخلق المادي يتناول البشر والإنسان كجسد . الصفات المعنوية موجهة إنسانياً وليس بشرياً ، ومن الواضح في القرآن أن الخطاب الذي يتطلب الاستيعاب والفهم والإدراك موجه نحو العقل وليس نحو التركيب العضوي ، وأن التعاليم موجهة لمن يعقلون ويتفكرون .

الإنسان

ما يهمنا في هذا البحث هو الإنسان الذي يتميز عن بقية أنواع المملكة الحيوانية والذي تحدد صفاته الآيات القرآنية كمفهوم مجرد . ووقوفنا عند مفهوم الإنسان في الإسلام ييسر علينا الانتقال إلى الإنسان كشخص ويسهل علينا المقارنة مع الفلسفات المختلفة . وإذا شئنا الخوض في جدل مع الفكر الفلسفي العالمي فإننا لا نستطيع تحاشي هذا الموضوع أو القفز عنه بسبب أهميته في بناء العلاقات الإنسانية . تناولت الفلسفات العالمية الإنسان وركزت على القوى الداخلية التي تؤثر على سلوكه وتخلق لديه أوضاعا نفسية مختلفة . وقد تطورت عبر الزمن العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان وذلك ضمن الافتراض بأن تحسين وضع المرء المعرفي والنفسي يؤدي حتما إلى تقدم الإنسانية ككل . لا يهمل الإسلام الإنسان ولا يتجاهله وإنما يوجه خطابه إليه مفترضا التفاعل الإنساني الفكري والنفسي مع التعاليم السماوية ، ويقدم كذلك الحلول أو بالأحرى مفاتيح الحلول للتغلب على ما يعترض المرء من معضلات والسير على طريق التقدم الإنساني .

ثار جدل تاريخي حول طبيعة الإنسان : أهو خيّر أم شرير ، أم يحمل بذور الخير والشر في آن واحد ؟ افترض أفلاطون أن الإنسان خير لأنه قوة عقلانية ، وإذا بدا عليه الشر فذلك لأن القوة الشهوانية تسيطر عليه ، أما لوك فافترض أن الإنسان خير وذلك على عكس هوبز الذي قال أن الإنسان شرير . (35) انعكس كل افتراض على فلسفة صاحبه ، وعلى تصوره النظري لما يجب أن تكون عليه الدولة . وهذا شيء بدهي لأن من يفترض الخير في الإنسان يسعى إلى إقامة دولة ومؤسسات بناء على هذا الافتراض ، ومن يفترض العكس فإن ترتيبه للأمور سيكون مختلفا تماما .

أما افتراض الإسلام حول الإنسان كمفهوم واضح من خلال استفسار الملائكة حول جعل الإنسان خليفة . تقول الآية الكريمة :“وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون .” (36) تشير الآية إلى أنه كان لدى الملائكة فكرة مسبقة حول هذا الذي سيُجعل خليفة وهو مفسد وسافك للدماء ، أي أنه شرير . لكن الملائكة تعرف الإنسان وهو إنسان قبل الجعل . هل أدخلت عملية الجعل صفات على الإنسان غير تلك التي تعرفها الملائكة ؟ ذلك ، حسب الآية ، علمه عند الله . هل تعرض الإنسان بعد جعله خليفة إلى عملية تحول لم تكن تعرف الملائكة عنها شيئا ؟

في إطار هذه الفكرة المسبقة لدى الملائكة ، تتحدث آيات قرآنية عديدة عن صفات إنسانية تميل إلى الشر أو إلى السوء دون الخير . فالإنسان على سبيل المثال ظلوم كفار وذلك حسب الآية : “وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار .” (37) وهو ظلوم جهول حسب الآية :“إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا .” (38) وهو كفور مبين :“وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين .” (39) وهو عجول : “ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا” …. (40) وقتور أيضا : “قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .” (41) ويحمل صفات غير حميدة منها : “إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا .” (42) وكذلك “لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط .” (43) وغير ذلك من الصفات .

وإذا تفحصنا هذه الصفات نجد أنها تدخل تحت تصنيف الزيغ والطغيان . منها ما ينقص أو يقصر عن حد الاعتدال كالتقتير وهو زيغ ، ومنها ما يتجاوز الاعتدال مثل الظلم وهو طغيان . وهذه صفات ، حسب القرآن ، متأصلة في الإنسان وليست مجرد عادات مكتسبة . إنها تنعكس على العلاقات بين الناس ولا تنبثق عن هذه العلاقات . وجودها عبارة عن إقرار أو على الأقل إخبار إلهي من خلال القرآن . ولهذا لم يكن غريبا أن تستفسر الملائكة عن هذا الذي أراد الله أن يجعله خليفة .

وقد أكد القرآن أن مسألة الزيغ والطغيان موجودة في السلوك الإنساني . تؤكد الآية: “كلا إن الإنسان ليطغى ....” (44) فكرة الطغيان ، وتؤكد الآية “إن الإنسان لفي خسر .” (45) فكرة الزيغ . وهذا يعني أن الإنسان ضمن هذه الصفات ليس معتدلا أو وسطيا . إن من يحمل هذه الصفات لا بد أن تكون حياته بعيدة عن الاطمئنان والهدوء . إنها صفات عدوان وجشع وخوف لا تبعث على الراحة والارتياح . وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة : “لقد خلقنا الإنسان في كبد .” (46) والكبد يعني تعب وشقاء الحياة المادية والمعنوية فنقول أن الإنسان يكابد الحياة ، وقد تعني أيضا محور الحركة أو وسطها مثلما نقول أن الشمس في كبد السماء . فإذا كان الإنسان وسط النشاطات المختلفة فهو مُتعَب وحياته صعبة بسبب ما يتحمل من مسؤوليات ، وهو مُتعَب أيضا إن كان مكابدا .

ربما تقودنا الفقرات المذكورة أعلاه إلى التأكد من تفسير الآية :“لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .” (47) قال أغلب المفسرين أنها تعني الاعتدال في القامة والتكوين الجسماني (48). تؤيد الفقرات السابقة التفسير هذا والذي يحصر التقويم في الهيكل المادي دون السلوك . ولو شمل التفسير السلوك لحصل تناقض بين هذه الآية والآيات الأخرى . أي لو شمل تفسير الآية مسألة الاعتدال السلوكي لأصبحنا في حيرة كبيرة حول الصفات الأخرى التي وصف بها الإنسان .

لكن جنوح الإنسان نحو الطغيان والزيغ لا يعني أن الإنسان لا يعرف أو لا يعي ما يعمل . فالإنسان عاقل قادر على معرفة الغث من السمين والصحيح من الخطأ . فقد خاطبه الله سبحانه : “فلينظر الإنسان مم خلق .”(49) وخاطبه :“فلينظر الإنسان إلى طعامه .” (50) وهذا خطاب لعاقل من أجل أن يستخلص العبر والحكمة ويرتقي بمعارفه وعلومه ويرى أسرار ونواميس الكون . ولأن الإنسان عاقل فهو يتذكر ما يعمل حيث يقول سبحانه : “يوم يتذكر الإنسان ما سعى .”(51) وهو لا يتذكر فحسب، بل هو قادر على وزن أعماله وإصدار حكم حولها . أنه يعرف ما يقوم به من عمل ومدى جنوح هذا العمل عن الصراط المستقيم . فتقول الآية :“بل الإنسان على نفسه بصيرة .” (52) أنه قادر على محاكمة نفسه ( على الأقل محاكمة معرفية).

التحول الجعْلي

إذا تأملنا الآية الكريمة :“ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، قليلا ما تشكرون .” (53) نجد من خلال القراءة المتقاطعة للآيات الكريمة الواردة حول سجود الملائكة والتي سبق ذكرها وحول عملية الاستخلاف في الأرض أن جعل الخليفة مرتبط بجعل السمع والأبصار والأفئدة . أي أن عملية الجعل الاستخلاف ، أو تحويل صيرورة الإنسان من مجرد مفهوم أو وجود فوق أرضي إلى خليفة على الأرض قد رافقه تغيير في كينونته . فبدل أن يكون بشرا خضع للتسوية ونفخة الروح ، أصبح مع الجعل الجديد صاحب سمع وأبصار وأفئدة. أخبر الله سبحانه أنه خلق بشرا ، ثم طلب من الملائكة السجود بعد اتخاذ إجرائين وهما التسوية ونفخة الروح . في هذه المرحلة لم يكن الإنسان مستخلفا بعد لأنه لم يكن قد خضع لعملية الجعل والتي هي إرادة إلهية تغييرية وليس مجرد حدث مرتبط بظروف معينة أو منبثق عنها . فالجعل كان إرادة إلهية تبعت استحقاق الإنسان لسجود الملائكة . فما هو الإجراء الإلهي الذي تعرض إليه الإنسان مما أدى إلى تغير في صيرورته أو تحوله الجعْلي ؟ من خلال القراءة المتأنية للقرآن لا يبدو أمامي كما أرى الآن إلا احتمال واحد لهذا الإجراء وهو السمع والأبصار والأفئدة .
أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة وهو الإنسان ولكن بعد تعرضه لعملية جعل تؤهله لأن يكون خليفة ، وهي العملية التي لم تعلم عنها الملائكة عندما احتجت بسبب ما توقعته من أعمال إفسادية يقوم بها الإنسان على الأرض . علمت الملائكة بمادة خلق الإنسان ودليلنا احتجاج إبليس على السجود ، وعلمت بنفخة الروح والتسوية لأن الله أخبرها بذلك ، وعلمت بالقدرة العقلية أو التعليمية والتمييز لأن الله علم آدم وأعلم آدم الملائكة بالأسماء . لكنها لم تعلم بفحوى أو ماهية العملية الآتية. وحيث أنها تتعلق بالأرض فمن المحتمل أنها مرتبطة بإرادة إلهية تتم على الأرض. فما الذي طرأ على الإنسان على الأرض ؟ يبدو أنه السمع والأبصار والأفئدة .

تؤيد هذا الاستنتاج الآية الكريمة : “قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .” (54) هنا ذكر سبحانه وتعالى الإنشاء وهو التنفيذ الفعلي الكمي . أنه ليس الخلق كما تذكر بعض المعاجم . (55) الخلق عبارة عن تصميم نموذجي والإنشاء عن تنفيذ كمي . هنا لا بد من التشديد على أنه لا يوجد مترادفات في القرآن الكريم وأنه لا يمكن استبدال كلمة أنشأَ بخلَقَ أو تفسير الإنشاء بالخلق. فالله ، جل في علاه ، ليس إنسانا يتلاعب بالألفاظ ولا أديبا ينافس الأدباء في بديع الكلام . يمتاز القرآن الكريم بالدقة لأنه دستور للناس، وإذا لم يصر الدستور على الدقة فإنه يفشل في توحيد الناس حول ذات المفاهيم ومضامين الأفعال.

الإنشاء هو التنفيذ المادي الكمي لما تم خلقه مسبقا . المهندس مثلا يصمم بنايته ، أي يخلقها على الورق وقد يترجم هذا الخلق إلى أنموذج ليختبر صلاحيته ويعرف عيوبه . بعد ذلك يقوم المهندس أو الصانع بعملية الإنشاء ، أي بعملية الإنتاج الفعلي الملائم للحياة الإنسانية أو اللازم لها . بعبارة أخرى ، الإنشاء هو الإنتاج أو الظهور التكاثري للشيء . وإذا ترجمنا هذا المفهوم على الإنسان، ولله المثل الأعلى، فإنه يعني التكاثر الذي يحصل بالتوالد . وبما أن هذا التكاثر يتعلق بالحياة الدنيوية للإنسان فإنه يحصل على الأرض . فإذا كان الإنشاء متعلقا بالحياة على الأرض فان جعل السمع والأبصار والأفئدة قد حصل على الأرض . وحيث أن الإنشاء مرتبط بالأرض فهذا الجعل مرتبط بالأرض أيضا . أي أن هذا الجعل مرتبط بعملية الاستخلاف الفعلية ، بمعنى أن الجعل الاستخلافي قد تزامن مع الإنشاء الذي تلاه جعل السمع والأبصار والأفئدة .

يتأكد هذا التحليل الاستنتاجي بالآية الكريمة :“والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون .”(56) ارتبطت عملية جعل السمع والأبصار والأفئدة هنا بالولادة الطبيعية وهي تليها مباشرة . هذا يعني أن عملية الإنشاء هي أشبه ما تكون حسب المصطلحات الحديثة بالإنتاج الواسع النطاق بعدما يتم استكمال البنى التصميمية والنموذجية .

هذا ويستنتج من القرآن الكريم أن هذا الإنشاء يعود إلى النفْس ، بمعنى أن عملية الجعل الاستخلافي في الأرض هي عبارة عن خلق النفس ( خلق لأنها بداية ظهور النفس ) وهي بالذات عملية السمع والأبصار والأفئدة . إذ تقول الآية :“وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون .” (57) والإنشاء هذا خلق في نفس الوقت ، أو بداية ظهور النفس ، والدليل على ذلك هو الآية : “هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ....”(58) أي أن الخلق والإنشاء في هذه الحالة لم يتتابعا . الجعل هو خلق إضافي . أنه إضافة على شيء تم خلقه بحيث تتغير صيرورته . أنه خلق في الخلق . فالخلق الذي أدى إلى ظهور النفس هو عملية الجعل التي خضع لها الإنسان . اتبعت هذه العملية المزدوجة بالجعل الزوجي والذي هو عبارة عن إرادة إلهية . وبهذا الجعل الزوجي أصبح التكاثر أمرا طبيعيا وأصبح الإنسان جزءا من حياة طبيعية يشترك فيها مع زوجه على الأقل .

توضح الآيات الكريمة كيف خلق الله خلقا في الخلق ثم أتبعه بالإنشاء : “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .” (59) تم التتابع هنا من الخلق إلى الإنشاء بِ ثم والتي تفيد التراخي وليس التتابع الفوري . أي أن وقتا قد مر أو فصل الخلق عن عملية الإنشاء .

لا يفهم من عملية الجعل هنا على أنه أصبح للإنسان عيون وآذان عضوية وأفئدة تضخ الدماء ، وإنما أصبحت لديه القدرة على التعامل الفعلي مع المحيط والبيئة . للإنسان آذان وعيون عضوية كما للكثير من الحيوانات ، لكن الآية لم تقصد الوجود العضوي بدليل تخصيص الخطاب وبُعد دلالته المعنوية . ومن حيث أن الإنسان عاقل ، فإن السمع والأبصار والأفئدة أصبحت وسائل وقنوات معرفية للعقل من أجل أن يتخذ القرار . وقد جمع القرآن الكريم بين هذه العوامل في عدد من الآيات مما يؤيد ارتباطها في النشاط الإنساني في الحياة العملية ، وكونها عوامل تكمل بعضها بعضا على أرض الواقع . فمثلا يرتبط الفقه بالأعين والآذان وذلك حسب قوله تعالى :“ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون .” (60) للأنعام أعين وآذان وقلوب لكنها تبصر وتسمع وتجري الدماء في عروقها . للإنسان الضال مثلها لكنه لا يفقه بدليل أن الآية تعني شيئا آخر غير الوجود المادي العضوي . من لا يفقه يبقى مبصرا وقادرا على السمع ، لكن سمعه وأبصاره وفؤاده لا تقوم بوظيفتها الفقهية التي قصدها القرآن الكريم . وقد أكد القرآن هذا بقوله :“...صم بكم عمي فهم لا يعقلون .” (61) وبقوله :“إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون .” (62) وغير ذلك من الآيات كثيرة.

بمعنى آخر نقلت النفس الإنسان من عالم التجريد إلى الواقع العملي . والنفس عبارة عن مجس له حساسيته تجاه مختلف الأمور ينقل المعلومات للعقل الإنساني الذي يقرر في النهاية أي طريق يختار . أي أن النفس والإنسان على علاقة متبادلة إذا جاز لنا أن نقول أن النفس عبارة عن إنسان يتعامل مع موجودات وواقع وأن في الإنسان قوة تجريدية تستطيع أن ترتقي وتدرك الخير من الشر . وقد قال لنا سبحانه بأن النفس تصلح للقيام بمهمتها الواقعية قائلا :“ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها. .”(63) لقد أتم الله النفس وغرس بها قوة استلهام العمل الخارج عن الصواب وقوة استلهام العمل الذي يقي من المعاصي والآثام . إنها تختار طريقها في الحياة العملية ، ومن ثم يأتي دور الإنسان يحلل ويستوعب نشاطها فيقرر كيف يقودها . فمن قادها بطريق الخير يكون قد طهرها ، أما من قادها نحو الشر يكون قد جرها إلى الهلاك. والنفس ومن يقودها واحد على الرغم من هذا التمييز الدقيق بينهما وذلك لأن الآية واضحة في قولها :“قد أفلح من زكاها .” أي أن من يعمل على تطهيرها يفلح هو ، وهو في النهاية الإنسان .

أضفت النفس تفاعلا إنسانيا حيويا على حياة الإنسان في الحياة الدنيا من حيث أنها وضعته في معترك متعدد الأبعاد ومتشعب النشاطات والاهتمامات والعلاقات . تطورت المشاعر والعواطف والانفعالات وما تشمله من فرح وحزن ، أمل ويأس ، تفاؤل وتشاؤم ، سرور وألم ، شوق وحنين وحب وكراهية وامتنان وقناعة وإيمان وكفر ، الخ . والنفس مع العقل الإنساني يعملان على تنظيم كل هذه التشابكات المعقدة في الحياة الدنيا .

الخلاصة

نستخلص من هذه المناقشة حول الإنسان أن هناك تدرجا مترابطا في الانبثاق الإنساني والنفسي . أو بمعنى آخر هناك مراحل تطورية قد مر بها الإنسان حتى انبثقت النفس ، ويمكن إجمالها بالتالي :

1- الإنسان مخلوق ولم يكن شيئا قبل الخلق . قال تعالى : “أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .” (64)

2- خلق الإنسان أولا من طين : “الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين .” (65) وهذا الخلق كان في المرحلة البشرية التي ما زالت دون الإتمام أو التسوية ونفخة الروح .

3- تميز الإنسان عن باقي المخلوقات بما فيها الملائكة، وذلك بنفخة الروح . وفي هذه المرحلة علم الله آدم الأسماء كلها ، أي وضع فيه القدرة التمييزية.

4- جعل الإنسان خليفة بأن هيأه الله لحياة الدنيا فجعل له السمع والأبصار والأفئدة ، وهذا هو إنشاء النفس الإنسانية .

5- الخلق عبارة عن أزواج وليس أفرادا ، وجعل الناس شعوبا وقبائل .

لم تلغ أي مرحلة المرحلة التي سبقت وإنما بنت عليها . هناك القاعدة المادية البشرية التي أضفت عليها نفخة الروح صفة جديدة ، وتفاعلت المرحلتان مع مرحلة تالية في واقع الحياة المادي . وهذه المراحل جميعها مرتبطة جدليا مع بعضها البعض لأن لكل مرحلة متطلباتها وتلقي بثقلها على الإنبثاق السلوكي للإنسان . أي عند مناقشتنا للإنسان الواحد لا نستطيع تجاوز متطلبات كل مرحلة وما تفرضه من مستلزمات . فالمرحلة المادية البشرية لها متطلبات يشترك فيها الإنسان والحيوان ، وهي متطلبات يستوعبها العقل ويقيم علاقة جدلية معها ، وتستوعبها النفس لتتعقد العلاقة الجدلية بعوامل متعددة ، مضافا إليها أن الواحد ليس فردا وإنما مجرد عنصر متميز ولكن غير منفصل .

من هنا لا يحكم الإنسان بفردية الإنسان لأن علاقاته الجدلية الطبيعية تتجاوز الفردية الاجتماعية ولا تتمشى معها . فمجمل العلاقات هذه كفيلة بإخراج الواحد من عالمه الخاص ليكون ضمن إطار اجتماعي أوسع . وهذا ما أقره القرآن عندما قال بأن الله خلقنا شعوبا وقبائل . وإذا كان الحال كذلك فأين موقع الواحد أو من يمكن أن نسميه الشخص ؟ وكيف يتعامل معه الإسلام ؟ حتى نفهم ذلك لا بد من مناقشة المسائل السلوكية التي يعتبرها الإسلام هدفه التوجيهي والتي يتحمل مسؤوليتها الإنسان . لكن من المهم أن نعي أن هناك مقومات خلقية تنعكس على السلوك الإنساني ولا يستطيع المرء تجاوزها لأنه خلق حسبها أو فطر عليها . أي أن أي بحث في النظام الإسلامي لا يستطيع تجاوز هذا الخلق ، وإلا فإنه يقع في أخطاء علمية جوهرية .

الهوامش

1- عبد الحميد أبو سليمان ، أزمة العقل المسلم ، ط1 ، ص50 .
2- عمر عبيد حسنة ، مراجعات في الفكر والدعوة والحركة ، ص20 .
3- محمد أركون ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص ص24 ـ 25 .
4- زكي نجيب محمود ، تجديد الفكر العربي ، ط5 ، ص223 .
5- الأنعام ،94 .
6- سبأ، 46 .
7- مريم، 80 .
8- مريم، 95 .
9- أمير عبد العزيز، الإنسان في الإسلام، ص11.
10- المصباح المنير، ص31.
11- النجم، 45.
12- الذاريات، 49.
13- يس، 36.
14- الزمر، 6.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 67 / 2165285

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالستار قاسم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165285 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010