الاثنين 9 آب (أغسطس) 2010

التهدئة العربية في لبنان وعقدة المحكمة الدولية

الاثنين 9 آب (أغسطس) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

يريح اللبنانيين كثيراً أن يشعروا أن حماية عربية لأوضاعهم ينعقد الاتفاق عليها بين الدولتين الكبيرتين الراعيتين لوفاقهم الداخلي (منذ «الطائف» حتى «الدوحة») : السعودية وسوريا. يعلمون، بالتجربة وسوابق الخبرة، أن وفاقهم يستقيم كلما استقام التفاهم بين دمشق والرياض، ويضطرب كلما حلّ الجفاء بين العاصمتين، ويعلمون أكثر أن أحداً منهم لا يملك أن يعترض على ما ينتهي إليه التفاهم بين العاصمتين من أحكام، لأن هذه الأحكام تسري على الجميع ولا تقبل نقضاً من أحد إن لم يشأ المعنيون بإصدارها مراجعتها هم بأنفسهم. قد ينقم عليها من اللبنانيين من ينقم إذ يشعر بأنها استثنته من توزيع الحقوق والحصص أو لم تنصفه فيها، لكنه لا يملك غير أن يكتم غيظه فيدخل في ما دخل فيه الآخرون من إشادة بدور الراعيين الشقيقين.

والحق أن التوافق بين سوريا والسعودية - وبمعزل عن موقف هذا الفريق أو ذاك من اللبنانيين منه - ظل باستمرار مدخلاً رئيساً إلى توليد حالة وفاقية داخل لبنان بعد جولة حرب أو موجة أزمة في الحكم أو عاصفة نزاع سياسي مستحكم، ومع أن اللبنانيين جميعاً ما كانوا - دائماً - موزعين في الولاء على العاصمتين العربيتين الراعيتين، بل كان في جملتهم من عقد الولاء لواشنطن أو لباريس ومن قيل عنه إن ولاءه كان لـ «تل أبيب»، إلا أن فريقاً منهم ما استطاع يوماً - على الأقل علناً - أن يجاهر برفض تسوية ينضجها الوفاق السوري - السعودي. ربما كان العماد ميشال عون حالة وحيدة واستثنائية في الاعتراض على مثل تلك التسوية الناجمة من التوافق بين الدولتين، على نحو ما كان عليه موقفه من «اتفاق الطائف» في العام 1989، لكن ثمن ذلك عليه كان فادحاً في النهاية، وكلفه عزلاً سياسياً دام قرابة عقد ونصف.

لم يكن التوافق السوري - السعودي ينتج حلاً سياسياً في لبنان دائماً، وإنما كان قصارى ما ينتهي إليه أحياناً هو فض اشتباك سياسي وإثمار تهدئة في انتظار إنضاج شروط وفاق سياسي داخلي. وليس هذا نتيجة قصور في المعالجة من قبل الدولتين، وإنما تقصدانه قصداً حينما لا تكون موارد الحل والمعالجة متوفرة داخل لبنان ويكون بعض تلك الموارد في حوزة قوى أخرى من خارج لبنان لا تملك دمشق والرياض السيطرة عليها وتسخيرها، لكن مجرد طلب التهدئة، في مثل هذه الحال من استعصاء الحل السياسي على الاجتراح، يمثل في حد ذاته تدخلاً ناجحاً وإيجابياً، على الأقل لأنه يحرر مناخات التجاذب اللبناني الداخلي من الاحتقان والتصعيد ويمنعه من التحول من تجاذب إلى نزاع مفتوح.

ذلك، على وجه الدقة، ما ينطبق اليوم على المسعى السوري - السعودي إلى تهدئة التوتر السياسي المستفحل في لبنان على خلفية التنازع الداخلي على المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومدى ما تتمتع به من شرعية وحياد أو من تسييس وتوظيف. إذا تركنا جانباً مشهد التآلف السوري - السعودي غير المسبوق في حرارته وفي تخطيه الأعراف البروتوكولية، فإن ما أشاعه في نفوس اللبنانيين من طمأنة كان كبيراً على علم الجميع بأنه (قد) لا يستطيع أن يضع حداً للنزاع على المحكمة إن كان يستطيع أن يرضي كل فريق في بعض ما يطلبه لنفسه،وهو قليل، وإذا أمكن التدقيق في وصف أغراض التهدئة السورية - السعودية للتوتر اللبناني، فإن أنسب وصفٍ لها أنها ترشيد النزاع وليس إنهاؤه.

فأما أن التهدئة ليست برسم إنهاء النزاع على شرعية المحكمة الدولية، فلأن مصير تلك المحكمة لم يعد في يد لبنان إن ابتغى - بالتفاهم - نظراً جديداً فيها يلحظ ما يمكن أن ينجم من مترتبات على السياقات التي تذهب إليها اليوم، إذ المحكمة باتت - منذ قرار إنشائها - شأناً من مشمولات سلطة مجلس الأمن الدولي. وأما أن التهدئة تتغيا عملياً ترشيد النزاع، فلأن الجميع يدرك أن لبنان بات فعلاً في نفق المحكمة الدولية وأن أحداً من الفريقين اللبنانيين المتنازعين ليس جاهزاً للتنازل عن حقه (حق رئيس الحكومة سعد الحريري - ومن يمثل - في دم والده وحق «حزب الله» في إسقاط التهمة عن المقاومة) وحين لا يكون ممكناً إنهاء نزاع من هذه الدرجة من التعقيد، فلا أقل من ترشيده.

ليس الترشيد شيئاً آخر غير تنظيم الخلاف الداخلي حول المحكمة بين الفريقين المعنيين بها وبقرارها الظني، أي رسم القواعد الضابطة له على النحو الذي يبقيه تحت السيطرة، ويحول دون استفحاله أو جنوحه لتوتير العلاقات الداخلية اللبنانية، ويقع تحت تلك القواعد الضابطة إخراج الخلاف حول المحكمة من السجال الإعلامي اليومي، والعودة إلى الحوار الوطني وإلى المؤسسات (البرلمان، الحكومة).

مسعى جيد هو هذا الترشيد، لكنه لا يوفر إلا حلاً مؤقتاً لن يفيد كثيراً في تبديد الهواجس مما قد يقع بعد أشهر، وهو قطعاً لن يبددها حتى وإن نجحت مساعٍ عربية إلى تأجيل صدور القرار الظني على الأقل بالنسبة إلى «حزب الله» وهذا يعني أنه لا بد من حل لأزمة مؤجلة.

لابد، هنا، من الانتباه إلى أمرين : أولهما أن إنضاج مثل هذا الحل سعودياً وسورياً يحتاج إلى بعض الوقت لأن عقدة الأزمة ليست في لبنان، بل في مكان آخر، ربما - بل على الأرجح - في واشنطن، وعليه، قد يقتضي كسب الوقت مسعى إلى تأجيل صدور القرار الظني، وثانيهما أنه إذا صدق ما يقوله «حزب الله» عن المحكمة بأنها مسيسَة - وهو على اليقين صادق - وإذا أمكن تأجيل صدور القرار الظني، وفي ذلك دليل إضافي على تسييس المحكمة، فإن ما بُنِيَ على التسييس لا يُحل إلاّ بالسياسة : حينها لن يكون التذرع بالقانون والعدالة حجة أمام البحث عن تسوية سياسية مع من يمسكون بمصير المحكمة في العالم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2181005

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2181005 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40