الثلاثاء 17 شباط (فبراير) 2015

بين طموحات الشعوب وأطماع النخب

الثلاثاء 17 شباط (فبراير) 2015 par حبيب راشدين

إذا كانت طموحات الشعوب في الرفاهية تتحقق اليوم في ظل الدولة الديمقراطية الحديثة، كما تحت الدولة الشيوعية الشمولية، وتحققت من قبل على يد أنظمة مستبدة في العهود الملكية والإمبراطورية، فلا بد أن نبحث في طبيعة التوافقات التي حققتها النخب بشأن الأهداف قبل الانشغال بطبيعة الدولة ونظام الحكم الذي هو محض أداة لتنفيذ مضمون إجماع المجموعة الوطنية.

ربما يكون الربيع العربي الساقط آخر محاولة أمريكية غربية لنشر الديمقراطية الغربية، على الأقل في العالمين العربي والإسلامي، وقد تأكد عندهم أمران: ضعف النخب الليبرالية العلمانية الأهلية، المؤهلة نظريا لتقبل توطينها كما هي على طريقة “المنتج باليد” وفشل ما يسمى بالإسلام السياسي في التعاطي مع مفرداتها، وأسلمتها بشكل مقبول، يصرف المسلمين عن النظر إلى مواطن التهديد فيه للمعتقد، والتقاليد والأعراف، وأسلوبهم في الحياة، الذي لم تغيره لا الحقبة الاستعمارية، ولا الهيمنة المطلقة للثقافة الغربية.

الذي حصل أن فشل مسارات الربيع العربي لم تقبر فقط الخيار الديمقراطي الغربي، بل هدمت جسور الرجعة أمام تشكيلات ونخب الإسلام السياسي، وفرص العودة إلى المرجعية الإسلامية، تماما كما حصل مع النخب الشيوعية والاشتراكية، بعد أن ورطت في مسارات إدارة المنظومة الليبرالية، وفقدت هويتها، وقطعت خطوط التواصل الفكري مع المرجعية الاشتراكية، كما تقطعت بها الأسباب مع قواعدها الاجتماعية.

لأجل ذلك نشاهد اليوم عودة المياه إلى مجاريها بين المنظومة الغربية وأرباب النظام الاستبدادي المتجذر في الدولة العميقة، ولن يجازف الغرب مجددا، على الأقل في المدى المنظور، بالرهان على قوى التغيير في العالم العربي والإسلامي، إلا كأدوات للضغط على النظم الاستبدادية، وليس كقوى بديلة يعول عليها.

انصراف الغرب عن مسار التغيير الديمقراطي بأدوات الثورات المخملية قد يمنح مجتمعاتنا ودولنا فسحة للتفكير في ابتكار مسارات تغيير أصيلة، مستنبطة من إرثنا الحضاري الثري، لا تفكر في طبيعة الدولة ومؤسسات الحكم، قبل أن تنجز إجماعا حول الموازنة الدقيقة بين تطلعات شعوبنا، ومقدراتنا الموضوعية، وموقعنا من التقسيم العالمي للعمل والوظائف والأدوار.

أي مقام محمود نريده ونطمح إليه، مثلنا مثل بقية الشعوب، على مستوى الرفاهية المادية والمعنوية، وعلى مستوى العيش المشترك المكفول بالأمن والاستقرار، وعلى مستوى التقسيم العادل والمنصف للمغارم والمغانم؟ وما هي مواردنا ومقدراتنا المادية والبشرية التي يمكن تجنيدها؟ وأخيرا ما هو موقعنا من التقسيم العالمي للعمل، وحصتنا منه على المستوى السياسي الدبلوماسي والاقتصادي؟

حتى يومنا هذا لم تنجز النخب الوطنية مثل هذا الجرد، لا على مستوى النظام والنخب المتداولة على السلطة فيه، ولا على مستوى قوى المعارضة، أو حتى على مستوى أكاديمي صرف، وهذا ما يفترض أن ينصرف إليه أي حوار وطني يبحث بأدوات التسوية عن مخارج آمنة لحالة الانسداد القاتل، وسوف نكتشف أنه متى توصلنا إلى إجماع وتوافق حول طموحاتنا المشتركة والمقدرات المادية والبشرية المتاحة لتحقيقها، سوف نهتدي بيسر إلى توافقات مرحلية متدرجة حول أدوات إدارة الشأن العام، الأقدر على تحقيقها، وبأقل التكاليف الممكنة، ما دامت الدولة هي “وسيلة” ولم تكن أبدا غاية.

هذا تحديدا ما فعلته النخب في الدول الصاعدة، في الصين، والهند، والبرازيل، فكان التوافق أولا على حدود طموحات شعوبهم، وفق ما عندها من مقدرات مادية وبشرية، وعلى ضوء ما هو متاح لها في التقسيم العالمي للعمل، ثم جاء التوافق على الأداة حسب ظروف كل بلد ومجتمع، فاختار الهنود نظام حكم ديمقراطي لاـ مركزي، أملته ظروف الهند وتجاربها التعددية ما بعد الاستقلال، فيما اختارت النخب الصينية الحفاظ على النظام الشيوعي المركزي، مع تحرير متدرج للاقتصاد، واختبار أدواته في شبه محميات وكانطونات معفية من القوانين السائدة في البلد، وقد فرض عليهم هذا الخيار بحكم وزن الإرث الشيوعي، وظهور الحاجة إلى الحفاظ على الدولة المركزية القادرة على فرض الخيارات الاقتصادية الجديدة، وحماية تراكم الثروات، ومكاسب النخب الثرية الجديدة.

وكما نرى فإن طبيعة الدولة ونظام الحكم لم يكن لهما الدور الحاسم في تحقيق طموحات هذه الشعوب، بقدر ما كان الحسم من جهة التوافقات التي تحققت بين النخب حول الطموحات الممكنة، وفق ما بين أيديهم من مقدرات، وعلى ضوء المساحات الشاغرة في التقسيم الدولي للعمل، وحتى يومنا هذا لم يلتفت الصينيون كثيرا للمطالبة بحق الشراكة في إدارة الشأن العام، ولا حتى إلى هامش الحريات الضيق في نظام شيوعي استبدادي بالطبع، ما دامت النخبة قد نجحت في تحقيق جانب من طموحاتهم المادية والمعنوية، وتوسيع دائرة المنتفعين من الثروة المنتجة، ورأينا الصينيين يقبلون مجبرين أو مخيرين بدفع ثمن هذا الخيار دما وعرقا.

الذهاب إلى مثل هذه التوافقات العقلانية قد يكون أسهل في بلد مثل الجزائر، ليس أمامه تحديات صعبة ومعقدة كتلك التي واجهها الصينيون أو الهنود أو البرازيليون، لا من جهة الاختلال الفظيع بين التعداد السكاني وشح الموارد، ولا من جهة التعدد العرقي، والتنوع الإثني والثقافي والديني، ولا من جهة التهديدات الأمنية الخارجية، والصراعات الإقليمية من حولهم.

فالبلد قد ورث مجتمعا متجانسا على أكثر من مستوى: اجتماعي، ثقافي، وديني، لم تؤثر فيه كثيرا سنوات الاحتلال الاستيطاني الطويلة، وهو فوق ذلك يمتلك ثروات كبيرة، أكثرها ما يزال مطمورا خارج الجرد، وله شعب فتي وطموح، يحتضن قوة إنتاج هائلة متى وجدت من يحسن تجنيدها، وقدر محترم من الإطارات المتعلمة ذات الكفاءة، التي نراها تسعد كثيرا من دول المهجر، والشركات المتعددة الجنسيات، حتى مع سخطنا على منظومتنا التربوية، وقد نجح البلد في البقاء بعيدا عن الصراعات الدولية والأحلاف، وظل بعيدا عن مسارات تقسيم النفوذ بين الكبار، وباستثناء بؤرة التوتر المزمنة مع الجار المغربي، والقلاقل المصطنعة أخيرا على حدودنا الجنوبية والشرقية، فإن البلد لم يكن يخضع لضغوط أمنية كبيرة تستنزف قواه وموارده.

والحال، فما الذي منع ويمنع نخبنا من البحث والتوافق على جملة من الطموحات الممكنة لشعب هذا البلد، مع توفر مثل هذه الظروف التي قد تحسدنا عليها كثير من النخب في محيطنا العربي كما في العالم؟

للأمانة لا يحضرني جواب مقنع، باستثناء ما ألمسه يقينا من تكالب النخب الغبي على السلطة منذ الاستقلال، دون الالتفات إلى الطموحات المشروعة التي نشأت عند عامة الشعب كاستحقاق ملازم للاستقلال واسترجاع السيادة، وهي طموحات معقولة غير مبالغ فيها، بالنظر إلى ما هو معلوم من مقدرات البلد، ولم يجادل المواطن نخبه طوال خمسة عقود في خياراتهم، سواء زمن الحزب الواحد، أو بعد قيام التعددية، ولن يخاصمهم مجددا لو اهتدوا إلى خيارات بديلة، شرط أن تكشف لهم عن معالم الطريق، وأن يكون حجم ما يطلب منهم من تضحيات مشفوعا بمغانم معلومة لهم، أو لأبنائهم في الحد الأدنى، ولن يجادلوا نخبهم كثيرا حيال طبيعة الدولة المؤهلة لتحقيق هذه الطموحات، ولا يعنيهم كثيرا أكان ذلك بأدوات الديمقراطية الغربية، أو بغيرها ما دامت تحقق الغاية، وتعد بقدر من التوزيع العادل للمغارم والمغانم.

فهل بوسع نخبنا اليوم، في السلطة كما في المعارضة، أن يهجروا ولو لساعة من الزمن هذا الخطاب الأحمق حول تأمين المسارات الانتخابية، وتوزيع ريع السلطة، الذي يسخر لتحقيق طموحاتهم كنخب ليس إلا، ويجلسون حول طاولة يبحثون عليها في طبيعة الطموحات التي يرضونها لشعبهم، قد تفتح أمامهم سُبل التوافق على الأدوات، ومنها الدولة ونظام الحكم، الذي يبقى محض تفصيل حين نتوافق على طموحات المجموعة الوطنية.

“انصراف الغرب عن مسار التغيير الديمقراطي بأدوات الثورات المخملية قد يمنح مجتمعاتنا ودولنا فسحة للتفكير في ابتكار مسارات تغيير أصيلة، مستنبطة من إرثنا الحضاري الثري، لا تفكر في طبيعة الدولة قبل جرد طموحات المجموعة الوطنية”.

“طبيعة الدولة ونظام الحكم لم يكن لهما الدور الحاسم في تحقيق طموحات الشعوب، بقدر ما كان الحسم من جهة التوافقات التي تحققت بين النخب حول طموحات شعوبهم، وفق ما بين أيديهم من مقدرات، وعلى ضوء المساحات الشاغرة في التقسيم الدولي للعمل”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165857

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع حبيب راشدين   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165857 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010