الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015

“الدولة الإسلامية” أم حتمية الحداثة؟

الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015 par خالد الحروب

ينبني النموذج النظري لـ“الدولة الإسلامية” كما يراه وينظر له أمحمد جبرون الباحث والجامعي المغربي في كتابه الجديد “مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة” على ثلاثة أركان، هي: البيعة، العدل، المعروف، وتشكل في مجموعها والنقاش حول تطورها والأشكال التي اتخذتها العمود الفقري للكتاب. وهي، بحسب المؤلف، قلب وجوهر التسيس الإسلامي، ومناط أسسه وأهدافه، إذ يقول: “ومن خلال مطالعة متأنية لنص القرآن، وتدبر سياسي لآياته من جهة، وقراءة متفحصة للتجربة التاريخية للرسول، بروح عصرية وأدوات معرفية مُستمدة مما أسلفنا قوله على مستوى فهم القرآن وفقه السنة، اهتدينا إلى جملة من المبادئ الكلية التي يرجع إليها تدين الدولة أو إسلاميتها في التجربة التاريخية الإسلامية. وهي على التوالي: البيعة والعدل والمعروف”. ورغم الأهمية البالغة التي ينسبها المؤلف لهذه الأركان الثلاثة فإنه لا يخبرنا بمنهجية الاهتداء إليها وعلى أي أسس استنباطية اختارها، بل ثمة قدر من الانتقائية الواضحة، إن لم نقل الاعتباطية في اعتمادها. لماذا، مثلا، لا تكون الأركان المؤسسة للتسيس الإسلامي هي تلك التي قال بها محمد عابد الجابري: الشورى والتفريق بين الرسالة والسياسة والمسؤولية العامة والفردية؟ ولماذا لا نقول إن الحرية بمفهومها الواسع والانعتاقي من السلطة والجبر هي أحد أركان وأهداف التسيس الإسلامي؟ ولماذا لا نقول إن المساواة، وليس العدل، هي التي تستحق أن تكون واحدة من تلك الأركان. وبعيدا عن حسم الخلاف حول أي من هذه المفاهيم يستحق أن يكون ركنا من “الأركان”، فإن ما هو مهم منهجيا توضيح المبرر المنطقي والجدلي الذي يسوغ تضمين أحدها واستبعاد آخر.
واستطرادا لأولويات المفاهيم المركزية ولدفع النقاش مع المؤلف إلى مساحات إضافية، يمكن الزعم هنا أن مفهوم المساواة وهو المفهوم الثوري الكبير الذي حققته الحداثة السياسية أهم بكثير من ناحية التأسيس لفكرة الدولة ودولة الحداثة عموما، ودولة “الحداثة الإسلامية” خصوصا، من مفهوم العدل. المساواة أهم من العدل، لأن مركزية هذا الأخير والتوق له تحصيل حاصل رغم طوباوية تحققه التام على الأرض، فكل منظومة فكرية وفلسفية وكل تجسيد سياسي واجتماعي لتلك المنظومات يولي الاهتمام الأولي لقيمة العدل وإعلاء مكانته. بيد أن المساواة بين الأفراد بغض النظر عن العرق والدين واللون والمرتبة الاجتماعية هي التحدي الكبير الذي يواجه التنظير، والتجسيد العملي، لفكرة الدولة الإسلامية الحديثة. وفي قلب هذا التحدي تقع فكرة المواطنة الكاملة التي تدفع بولاءات الأفراد الفرعية إلى الهوامش وتعتبر ولاءهم للدولة وبكونهم مواطنين فيها هو الأولى والأساسي. وهنا، في قراءة وبحث جبرون، لا نجد التقعيد المطلوب لفكرة المساواة وموضعتها في نظرته وتنظيره للدولة الإسلامية. ولا نجد على سبيل المثال، وارتباطاً بمسألة المساواة، أي نقاش معمق لموضوعة غير المسلمين في الدولة الإسلامية المُنظر لها.
وربما أمكن القول هنا إن خفوت موضوع المساواة في مقاربة الكتاب يقودنا إلى مسألة إشكالية أخرى وهي الاعتماد على خصوصية الحالة المغربية التي استولت على المؤلف واعتبرها المثال التوضيحي، عبر تفكيكه وفهمه، للنموذج النظري الذي يقترحه. فمن ناحية أولية، تنحصر معالجة الكتاب في التجربة السياسية العربية (وليس الإسلامية بشمولها) قديما وحديثا. وفي الإطار العربي “الحديث” تفرد مساحة موسعة لمناقشة الحالة\ النموذج التي تم تطبيق “النموذج النظري” عليها وهي حالة المغرب.
ويبرر المؤلف هذا التركيز والاستدلال في المغرب بكون “... الدولة المغربية خلال العصر الحديث من الأمثلة التاريخية النموذجية التي تعكس بجلاء اعطاب الدولة الإسلامية (دولة العصبية)، وقصورها في هذا المنعطف التاريخي الحاسم..”.. بيد أن الحالة المغربية وتطورها وتاريخها تتسم بخصوصية لا تمثل أو تعكس بقية العالم العربي أو الإسلامي، وتثير بالتالي إشكالية منهجية حول مدى فعالية النموذج النظري. فالمغرب يمتاز مثلا بالتناغم الديني وعدم وجود مواطنين غير مسلمين بنسب مهمة، وبسيرورة تاريخية تمتد عدة قرون من حكم شبه متصل (دولة المخزن ماضيا وحاضرا)، وبسبب ذلك يبدو تطبيق النموذج النظري (البيعة، العدل، المعروف)، الذي يركبه المؤلف/المؤلفة على الحالة منطقيا. لكن سوف نصطدم بمشكلات منهجية من نوع مختلف لو طبق ذلك النموذج في منطقة أخرى مختلفة عن المغرب، مثلا في المشرق، حيث التعددية الدينية، وحيث سيرورات الحكم المناطقي تحت ظل الدولة العثمانية مختلفة عن السيرورة المغربية، وهكذا، ففي حالات كثيرة لن نجد استمرارية مباشرة أو غير مباشرة لذلك النموذج الذي لو استمر من دون انقطاع لقاد المسلمين وبلدانهم إلى حداثتهم السياسية كما تقترح المخطوطة. وهكذا فإننا لا نستطيع الخلوص إلى مبادئ نظرية تتأسس على التجربة التاريخية ويكون طموحها الإسهام في “الحداثة السياسية” لمفهوم الدولة الإسلامية من دون التعرض للسيرورات التاريخية في شكل التسيس الحديث في المجتمعات والدول المسلمة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا على سبيل المثال، واختبار النموذج النظري الذي يقترحه المؤلف.
فضلا عن ذلك فإن التطبيق المعاصر لبعض أركان النموذج النظري يثير تساؤلات منهجية أيضا، مثلا كل دول الخليج تعتمد على مفهوم “البيعة” في إطار “أهل الحل والعقد” في شرعنة الأنظمة القائمة. فأين نضع هذا في سياق تطور سيرورة هذا الركن، وهل يختلف توظيفه عن التوظيف التاريخي من قبل النخب الحاكمة، وهل صلابته في هذه الدول تقف في وجه آلية البيعة في العصر الحديث المتمثلة في الديمقراطية والانتخابات؟.
ما لا يبدو واضحا تماما أيضا، هو موضعة السياق والنص في تشكل وتطور “الدولة الإسلامية”. ففي الوقت الذي يكرر فيه المؤلف ضرورة عدم الخضوع للسياق لتحديد مفهوم الدولة الإسلامية عند المفكرين المعاصرين، فإنه يخضع عمليا “مفهوم الدولة الإسلامية” لفقه التاريخ (أي السياق بشكل أو بآخر). ويؤكد على “الشرعية الأخلاقية” للتاريخ غير المتوائم مع المثال الطوباي ويكشف عن “الإكراهات” التي مرت بها تلك الشرعية وأهمية فهم وقبول تلك الإكراهات التي شكلت الصيغة التي تبلورت إليها “الدولة الإسلامية”. وكل ذلك قد يشير إلى قبول لإكراهات السياق في الماضي، ورفضها في الحاضر. في الوقت ذاته يحتاج المؤلف إلى التوسع في فكرة نقده خضوع الإسلاميين لمسألة السياق في تطوير أفكارهم إزاء “الدولة الإسلامية الحديثة”، وتناول السؤال النظري والمعمق حول تطور الأفكار وتبلورها في أي زمن ما، والعلاقة العضوية المشتبكة دوما مع السياق مقابل سلفية الأفكار التي تنقطع عن السياق وتتعالى عليها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2165265

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع خالد الحروب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165265 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010