الأربعاء 14 كانون الثاني (يناير) 2015

“أنا شارلي” . . “أنا لست شارلي”

الأربعاء 14 كانون الثاني (يناير) 2015 par د. يوسف مكي

“أنا شارلي”، ضد الإرهاب الجسدي والفكري والمعنوي، أعبر عن الضمير الإنساني، والإنسانية المشتركة، أتضامن مع الضحايا . ومع الاختلاف وقبول الآخر المغاير . . ومع حرية التعبير المسؤولة .
“أنا شارلي”، حينما أرى الإرهاب جريمة سياسية، تسببت في تفاقمه وانتشاره عوامل سياسية وثقافية واجتماعية .
“أنا شارلي”، كقلم له رمزيته “الحرية” وله موازينه “العدل والإنصاف”، أسخر من أية شخصية ممثلة لسلطة ما، بابا الفاتيكان، شيخ الأزهر، ولي الفقيه، الحاخام الأكبر في باريس أو نيويورك الدالاي لاما، أنقدهم لأذكرهم بأنهم تحت عين المجتمع والصحافة .
“أنا شارلي”، أحترم الثقافة الفرنسية، والتنوير الأوروبي، وأقدر “شارلي” جريدة “الليموند”، الوقورة المسؤولة، والتي تراعي الأدب واللياقة والمهنية، وتدافع عن حرية التعبير وفق مفهوم جوهر الثقافة الفرنسية .
“أنا شارلي”، رغم معرفتي أن رسوم وسخرية “شارلي” مبتذلة واستفزازية . . مثلها كمثل كتاب سلمان رشدي سيئ السمعة، والذي ظل كتاباً تافهاً من غير قراء، حتى صدرت فتوى بائسة، بإهدار دمه، فصار رائجاً، وطبع منه ملايين النسخ .
ومنذ سنوات، ودافع الضرائب الإنجليزي، يدفع نحو مليون جنيه إسترليني سنوياً لتأمين وحماية المؤلف .
“أنا شارلي”، ولا أحتاج لإعلان تبرئي كعربي مسلم من هذا العمل الإجرامي البشع، إلا أنني مصرّ على معرفة أصل وفصل الإرهاب الراهن، بعيداً عن الكلام الشائع والمتداول والمبسط، أنا أريد أن أعرف كيف تغسل دماغ الإرهابي من أبناء البيئة الثقافية الأوروبية، ابن العولمة المتوحشة، ابن الضواحي المهمشة، ابن الخطاب الديماغوجي الفرنسي، والخطاب المتعالي والمتغطرس الغربي، والسياسات ذات الوجهين . لا تخبروا “شارلي” عما تعرفونه “معرفة ساذجة” عن الخطاب الغامض الإسلامي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهو يلوّح بشعارات غائمة، ويضمر مفهوماً سادياً غاضباً، مؤداه “لتذق أوروبا ما نتجرعه يومياً!” .
نعم . . ليس كل الفرنسيين “شارلي”، وليس كل العرب والمسلمين “دواعش” . . لذا أقول أيضاً:
“أنا لست شارلي”، حينما أكره الأجانب ومعتقداتهم، وأرفض احترام مقدساتهم، حينما أخلط ما بين الإرهاب والإسلام، وأسهم في رفع منسوب الكراهية لمسلمين أوروبيين وتصويرهم صنواً للهمجية والتوحش . “أنا لست شارلي”، حينما ترتقي قوى اليمين المتطرف الأوروبية، من مستوى حركات احتجاج إلى مستوى أحزاب تستعد للإمساك بالسلطة في أكثر من بلد أوروبي . وهذه قوى مناهضة للديمقراطية في أوروبا . وتشرعن التمييز، وترّوج للكراهية والاحتراب والصراع بين الثقافات والأديان، وتستهدف المهاجرين، وبخاصة من العرب والمسلمين والأفارقة جنوب الصحراء، رغم أن هذه الهجرات هي من عوامل التحسن في المجتمعات الأوروبية والتي زودت قطاعات اقتصادية كثيرة بنسبة عالية من اليد العاملة، وزادت في مرونة أسواق العمل، وساهمت في تنافسية المنتجات الأوروبية، وفاقت نسبة الضرائب التي يدفعها المهاجرون، خلال نصف قرن، قيمة الخدمات والمساعدات الاجتماعية التي تلقوها من الدولة الأوروبية “وفقاً لبيانات وإحصاءات دولية” .
“أنا لست شارلي”، حينما لا تعالج الثقافة الغربية، من مرض “الإسلاموفوبيا”، وحينما لا تدرك قطاعات واسعة أوروبية، أن العدو الأول للإرهاب الوحشي، خلال العقود الأربعة الماضية، هو المجتمعات العربية والإسلامية نفسها، وليس الغرب، وإن جل آليات العنف ومفاهيمه المعاصرة، هو من بعض نتاج مجتمعات أوروبية، بدءاً من مراحل قمعية إرهابية في الثورة الفرنسية، مروراً باليسار الراديكالي والماركسية الثورية والعنف الإيرلندي، وصولاً إلى تأسيس “القاعدة” أثناء حروب الغرب ضد روسيا السوفييتية .
“أنا لست شارلي”، حينما لا أعترف بالاختلاف والغيرية، ولا أكفل للآخر حقه، في التعبير عن فكره، وحينما يسكنني الشعور بالأفضلية والتميز والتعصب الممقوت . والذي يغري السفهاء بالإحساس بالاستعلاء والغطرسة .
“أنا لست شارلي”، لأنني أتبرم من النفاق وازدواجية المعايير التي تتلون بلون الأديان والأعراق، وأتبرم من حرية التعبير التي تتوقف أمام “الهولوكوست”، ولا تكون منصفة حينما نتجاهل مجازر نيجيرها، ومحرقة غزة، وحرق أطفال القدس، وحتى جريمة قتل شرطي فرنسي مسلم، وعامل فرنسي مسلم في “جريدة شارلي”، إن القتلة الجوالين، لا يميزون بين مسلم ومسيحي، يكفّرون كل من لا ينتمي لفكرهم الظلامي .
“أنا لست شارلي”، حينما يتجرأ أحد في هتك المقدس عند الآخر، والسخرية من الخالق والمسيح عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، إلى درجة لا يقبلها حتى الملحد، وحينما لا يتم إقرار قانون أوروبي يعاقب الإساءة للأديان السماوية، جنباً إلى جنب مع القانون الذي يعاقب إنكار المحرقة أو يشكك في أعداد ضحاياها وأيضاً جنباً إلى جنب سن قوانين في الدول الإسلامية تعاقب التعرض للرموز المسيحية المقدسة (من منا لا يتذكر، كيف كانت الأدعية المشهورة في بعض المساجد ضد أهل الكتب السماوية، ومن أمثال: اللهم اقطع نسلهم، ويتم أطفالهم . . الخ) .
“أنا لست شارلي”، حينما أرى من يرفع شعارات “الوحدة الوطنية”، فارغة من محتوى العدل والإنصاف، والإدماج الموضوعي المجتمعي لأجيال متتالية من أبناء المهاجرين، وحينما يقلق ساسة عرب . من سياسات غربية ميكيافيلية، (تظن أنها فطنة وعالمة) احتضنت ودعمت حركات إسلاموية عنيفة ومتطرفة، وتتستر وتحمي وتدلل قوة احتلال وحشي وعنصري، طال مداه، واستطالت أنيابه، إلى درجة أن المتطرف الأكبر نتنياهو يدعو يهود فرنسا للهجرة إلى فلسطين المحتلة، ويتظاهر أنه ضد الإرهاب، وهو الإرهابي الأكبر في الشرق الأوسط .
“أنا لست شارلي”، حينما تخفق دول غربية في بناء حاضنات قادرة على ربط المواطن المهاجر، بالوطن الجديد . وعلى توفير الآليات التي تمكن هذا المواطن الأوروبي المسلم، من الإحساس بأهميته، وامتلاكه المبادرة والوظيفة والعدل، بديلاً عن التمرد .
. .هل يكفي ذلك لتمييز النفس عن أصحاب الخطابين:
. .خطاب قتل النفس التي حرم الله قتلها، وخطاب “شارلي”؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2180846

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع يوسف مكي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2180846 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40