السبت 10 كانون الثاني (يناير) 2015

رسالة إلى النخب المثقفة في الغرب

السبت 10 كانون الثاني (يناير) 2015 par د. محمد مصطفى علوش

لنثبت بداية أن الاغتيال المادي للصحافة والصحفيين الذي حدث في إحدى ضواحي باريس عمل إرهابي بامتياز، ويُوجب علينا التضامن الكامل مع الضحايا أيا كان النقد الموجه لعملهم، لأن الصحافة مهنة لا تقل عن مهنة رجال الدين وعلمائه في إرشاد الناس ورفع مستوى وعيهم السياسي والمجتمعي.
وكيلا تتكرر الحادثة المؤلمة، لنلتقط الأنفاس قليلا ونفكر بعمق، دون انفعالية مولدة لعنف مضاد أو انتهازية لئيمة لبعض شذاذ الفكر وساديّ السلطوية ممن يكتمون فرحهم العامر بهذه الأحداث ويرغبون بالمزيد لحمل الغرب على تأييد سلوكهم المستبد في القمع والإقصاء والاغتيال المادي والمعنوي للمعارضين السياسيين.
فأعمال العنف والإرهاب والتطرف ليست حكراً على فئات محبطة أو منحرفة داخل المجتمعات الإسلامية، وهي مهما بلغ عنفها وتطرفها وإرهابها لا يساوي، في معايير الكم والنوع، الإرهاب الذي مارسته جماعات وأحزاب ودول في العالم ليست من الإسلام في شيء، وأوروبا المستعمرة تاريخيا لديها سجل حافل وغني عن الذكر! وبالتالي الفرضية التي تقول إن الإرهاب العالمي اليوم هو إرهاب إسلامي خالص هي فرضية مغلوطة ومضللة ومشبوهة في آن. كما أن معاقبة جميع المسلمين أو تحميلهم المسؤولية بشكل مباشر أو ضمني من شأنه تغذية التطرف وتمدده، وليس مواجهته أو احتوائه. ويكفي أن ندرك كيف أن الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أثارت التطرف القومي والديني في المجتمعات الغربية التي انقسم فيها الناس على أساس عرقي أو ديني!.
قُدّر للغرب عموما أن يحتوي الملايين من المسلمين داخل مجتمعاته، وبعد قرون من التفاعل بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي أصبح الإسلام ثاني أكبر دين في المجتمعات الغربية ولم يعد دينا مستوردا أو غريبا وطارئاً. هناك أجيال مسلمة نشأت وترعرعت ولا تعرف إلا الدول الغربية وطنا ومجتمعا، ولا تملك أيّ رابط، يربطها ببلاد المسلمين سوى المشترك الديني فقط.
على الغرب أن يدرك أن معركته ليست مع الإسلام والمسلمين، وإنما مع التطرف. والتطرف اليوم ظاهرة عالمية، لا دين لها ولا مذهب. وهو قديم قدم الأديان كلها، وقد وقعت به أو مارسته أغلب المجتمعات البشرية، وإن كانت بنسب متفاوتة، البيض في الولايات المتحدة مارسوه ضدّ الهنود الحمر السكان الأصليين، ثم ضدّ السود الذين جلبوا كعبيد أرقاء لخدمة الرجل الأبيض. هل يجوز لنا أن نقول إن ما فعله هؤلاء يتحمل مسؤوليته الدين المسيحي؟!
الإرهاب الحديث اليوم هو نتاج جملة عوامل: اليأس، الإحباط، البطالة، التعليم الرديء، القمع، والشعور بالإذلال كلها تساهم بصنع هذا الغول. ثقافة العولمة التي ألغت الخصوصيات القومية والعرقية والدينية وقضت على التنوع الفكري والحضاري واختزلت العالم في سوق استهلاكي كبير يوجهه ويعلوه المذهب الانتقائي المتجسد بالفكر الغربي لم تكن أقل خطورة من فكرة “شعب الله المختار” في الأدبيات الدينية اليهودية.
الإرهاب ليس ظاهرة سياسية معزولة عن بعدها الاجتماعي، تماما كما هو الحال بشأن البعد الاقتصادي، وهي أكثر تعقيدا وتشابكا من أي ظاهرة أخرى، وعوامل إنتاجها تبدأ من التاريخ مروراً بالتربية الخاطئة وصولا إلى فشل البرامج الاجتماعية في الدمج الآمن داخل المجتمع الواحد. وقد عجز المجتمع الغربي عن احتضان الشباب المسلم المهاجر، كما فشل الأخير في التأقلم والاندماج في المجتمع الجديد.
والإرهاب الناتج عن ممارسات بعض المسلمين، يجمع كل ما سبق من الأسباب ويضاف لها بعدا أشد خطورة، وهو الشعور بالهزيمة النفسية والحضارية أمام الغرب الذي تفوق على المجتمعات المسلمة. وهذه إشكالية يتحملها في الحقيقة ودون مواربة أو مجاملة أهل الإسلام من علماء ومفكرين وسلطات رسمية لفشلها في مشاريع التحديث والتحول السياسي. كما أن انحياز الغرب الفاضح والفج لجانب إسرائيل على حساب الحقوق الإنسانية المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعم النظم السلطوية المستبدة في العالم الإسلامي وقيادته للتحالف الدولي ضد التطرف الإسلامي في الوقت الذي يغض فيه النظر عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، أنتجت هذه الثمرة المحرمة.
للأسف، نحن اليوم على أعتاب موجة جديدة من العنف الإسلامي شبيه بالحالة التي أنتجها احتلال العراق وأفغانستان، ومردّ هذه الموجة تعود لفشل الثورات في تحقيق أهدافها وما نتج من فراغ أمني وسياسي بسبب سقوط النظم السياسية، وغياب تام لمنظمات المجتمع المدني. وإذا كان التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب قد حدّ من توسع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية وحال دون اقترابها من دول الخليج والأردن إلا أن الحلف لا يمكنه استئصال التنظيم بقدر احتوائه، والسيناريو الأكثر رعباً وعلى الغرب كما العرب التحسب له هو تفتيت التنظيم إلى خلايا وتنظيمات شديدة الصغر لكنها أكثر راديكالية وأكثر فاعلية!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2178713

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع محمد مصطفى علوش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178713 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40