الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) 2015

خمسون عاما من الثورة

الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) 2015 par د.احمد جميل عزم

هناك اتفاق على أنّ نضال فلسطين وشعبها ومن ناصرهما، بدأ قبل 1 /1/ 1965، أي صباح ليلة عملية نفق عيلبون غرب طبرية، والذي اتخذ باعتباره بداية الثورة المعاصرة؛ فالنضال بدأ مع بدء المشروع الصهيوني. ولكن ربما سنجد اتفاقاً أقل على توصيف ما حدث عبر الخمسين عاماً الماضية بأنّه ثورة حقاً، وسنجد خلافاً على تقييم حصيلة المسيرة.
من دروس القضية الفلسطينية، أنّ الوسيلة تستحيل هدفا أحياناً؛ مثل المفاوضات التي يريدها الأميركيون لإشغال العالم، بغض النظر عن نتائجها؛ والفصائل التي صار أتباعها يتعصبون لها أكثر من تعصبهم لفلسطين. ولكن الثورة حققت أيضا للناس أهدافاً فرعية (مهمة حيناً ومضللة حيناً) في الطريق إلى “الهدف الحقيقي”؛ إذ كان الفلسطينيون يشعرون بالضياع وعدم وجود سند أو جماعة ينتمون إليها، وعدم وجود أفق. وتغير كل هذا، وصارت الثورة وطناً مؤقتاً؛ صار الفلسطيني يشعر بوجود سلاح وهيئة تتحدث باسمه وتحميه وترعاه في كثير من الأحيان. ولخّصت رضوى عاشور، في روايتها “الطنطورية”، الموقف بقصة اللاجئ “أبو الأمين” في لبنان، الذي رفض دخول المخيمات لشعوره بالمهانة فيها، إلا مرة واحدة العام 1957 لطلب عروس لابنه. ويومها أيضاً صُدم بتعليق أهل البنت أنه يجب انتظار محاولة الحصول على موافقة الاستخبارات (الشعبة الثانية اللبنانية) لمنح أهالي صفورية، أهالي كريمة العروس الموزعين في المخيمات، تصريحا لدخول المخيم وحضور حفل العرس.
بعد حرب العام 1967 والثورة، صار أبو الأمين “يشرب قهوته بسرعة في الصباح، ثم يرتدي قمبازه والجاكيت ويضبط الحطة والعقال، ويمسك بعصاه ويعلن لخالتي بصوت جهوري:”لا تنتظريني على الغداء يا حليمة، سأقضي اليوم في المخيم، عندي شغل كثير". تحولت الثورة إلى رسالة حياة، وحماية للفلسطينيين، وصارت مجتمعاً بما فيه من قتال وفرص عمل واقتصاد وثقافة وفن وعواطف وفساد.
قام الفلسطينيون بالثورة بمعنى الانتفاض والرفض والمواجهة والصمود. ولكن كيف قاموا بذلك؟ وكم الأخطاء التي ارتكبوها؟
يقول يوسف صايغ في كتابه “سيرة غير مكتملة”، إنّه عانى نهاية الستينيات أشهراً طويلة محاولاً إقناع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بقراءة خطة عمل للثورة، كلفوه بوضعها بصفته رئيسا لمركز التخطيط، وكيف ظلت نسخها ملقاة في زوايا أحد مكاتب الثورة. وعندما وصل غضبه للجنة، علّق أحد أعضاء “القيادة التاريخية” بالاستهزاء: “ثورة وتخطيط ما بصير”. ووصلت القصة صايغ فعلّق بسخرية أقسى من أن أوردها هنا.
وكانت القيادة الفلسطينية تكثر تكليف أكاديميين وناشطين بوضع خطط للثورة والعمل، وكان البعض يفتخر أنّه مكلف بهذه المهمة التاريخية، ليكتشف أنّ غيره كلفوا بها، وأنّ شيئا لم ولن يطبق. ولذلك، يكاد تاريخ الثورة يكون تاريخ أفراد؛ فنحن نتحدث عن عظمة خليل الوزير (أبو جهاد)، وسعد صايل، وغيرهما. ولكنّ كلا منهما كان يعتمد على ذاته ويقود مجموعات بمبادرات شبه شخصية، من دون استراتيجية متكاملة، ومن دون استمرارية عند استشهادهم.
في روايتها “باب الساحة” عن انتفاضة العام 1987، طرحت سحر خليفة سؤالاً قاسياً عن جدوى التضحيات، وعن العقد الاجتماعية والحسابات الفردية التي تحول الثورة إلى“غولة” تأكل أبناءها. في السبعينيات والثمانينيات، كانت فكرة السؤال عن نتيجة التضحيات وثمارها الفعلية أشبه بكُفر بَواح. ولكن في نهاية الثمانينيات، لم تعد الثورة مطلوبة لذاتها، وصار الشعب يسأل: ماذا بعد؟ وتضاءل هدف “كل الوطن الفلسطيني وكل الشعب”، إلى هدف “الدولة الفلسطينية”.
قبل نحو عام، أعطاني مناضل ثائر، لعب على مدى ثلاثين عاماً دوراً في قيادة النضال داخل فلسطين، من مواقعه في الأردن وسورية ولبنان وتونس، مخطوطاً عن تجربته. وبعد قراءته، سألته أنّ في الكتاب تضحيات هائلة ومحاولات لا تهدأ، ولكن أغلب المحطات والعمليات اعتراها الخلل والفشل؟ فقال: للأسف هذه هي الحقيقة.
تمجيد الشهداء والأسرى والأبطال الصامتين واجب، وتضحياتهم حققت للفلسطينيين الكثير من مقومات البقاء والصمود. وقدّم العمل الفلسطيني في الماضي للفلسطينيين الكثير من الإنجازات الفردية والجماعية. والفلسطينيون هم شعب الجبارين، بمقاييس الصمود والتجدد والنهوض، وأوجدوا إنجازات في مجالات عديدة. لكن هذا لا يلغي أنّ مسار الثورة كان مرتبكاً؛ تحولت حيناً لهدف بذاتها، واستبدلت الوطن بالسعي للدولة، وبات مشكوكاً بوجودها الآن سوى اليقين بوجود الجذوة الثورية داخل الشعب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165485

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165485 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010