الأربعاء 4 آب (أغسطس) 2010

أي صهيونية؟ ماذا فعلتم في فلسطين؟

الأربعاء 4 آب (أغسطس) 2010 par خليل قانصو

إن الدراسات الذي يُنجزها، على التوالي، المفكر الفرنسي اللامع ريجيس دوبريه، في مجال الكشف عن الجذور والأصول وفي مجال رصد الوقائع وطرق النقل والسرد، بقصد الحيلولة دون الانقطاع بين الأجيال والحقب، تمثل على الأرجح، مظهراً من مظاهر المقاومة الفكرية ضد هيمنة الدعاية، واصطناع الحقائق وترويضها لمصلحة أصحاب النفوذ. ولعل من فوائد مثل هذه الأعمال، تسليط الضوء على دور العقائد والمؤسسات والمعارف والقدرات المادية والتطبيقات العملية، في حدوث تطورات ومتبدلات تاريخية.

ومن فوائدها أيضاً، أن المثقف الذي يضطلع، ضمن هذا السياق، بمهمة «النقل»، لا يكون عادة، وسيطاً أو مقرراً محايداً، ولكنه يسمي الأشياء بأسمائها، ويصفها بما هي. أي ليس بالضرورة كما تبدو. على قاعدة أن حِفظ الرواية، هو دليل على الأهمية التي يمنحها أيّاها الحافظ، هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فان الاهتمام بالمحفوظ يؤدي، في أغلب الأحيان، إلى إدخال تعديلات عليه.

ومن المعروف انه في مضمار بحثه وتنقيبه عن العناصر التي أسست، لبعض الروايات التي يروّجها مفكرون في بلاد الغرب، جال ريجيس دوبريه في بلاد الشام، وتحديداً في المناطق التي شهدت، كما تقول الرواية، ظهور السيد المسيح ودعوته، ودوّن ما رآه وسمعه وما خلّفه ذلك لديه من انطباعات في كتاب قيـّم، حمل عنوان ( un candide en Terre Sainte ) من الممكن ترجمته، «ساذج في الأرض المقدسة»، وهو كتاب يأتي بعد مداورة غنية قام بها، على موضوع «الدين والقداسة». يكفي هذا الاستطراد للقول بأن المواقف التي يعبر عنها دوبريه بخصوص المسألة الفلسطينية، إنما ترتكز على معاينة ميدانية من جهة وعلى خبرة «المُحقـِّق» ( m’diologue ) من جهة ثانية، في ترميم الحقيقة، اعتماداً على تمييز أصل الرواية مما علق بها من زخرف الكلام ومما طرأ عليها من تحولات. ويصيب الخبير، من حيث المبدأ، غالباً، ولكنه يخطئ أحياناً.

إذ من البديهي، أنه بات يكترث بهذا المسألة، ويوليها عناية ملحوظة، لاسيما أن حقيقة ما يجري في فلسطين، لم تعد خافية على كل ذي بصر وسمع. فهناك من يعرف، وهم الكثرة في دولة المستعمرين «الإسرائيليين». هؤلاء يوافقون على إخراج الفلسطينيين من منازلهم وإقصائهم، بالقوة والإرهاب، عن أرضهم أو حبسهم في المعتقلات أو حصارهم أو إقفال الطرقات أمامهم.

وهناك قلة من «الإسرائيليين» يحتجون ويعترضون على سياسة التمييز العنصري المتبعة في فلسطين. لا شك أنهم، يشدون عضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، ولكن نشاطهم لا يرقى باستثناء بعض الأفراد منهم، إلى المستوى المطلوب لرفض تلك السياسة ومقاومتها إلى جانب الفلسطينيين المناهضين للعنصرية والاستعمار، بكافة الوسائل الممكنة.

أما اللافت للنظر، فهو جماعة من المثقفين «الإسرائيليين» يعترف أفرادها، خصوصاً في وسائل الإعلام الغربية، إذ ما يحق للإسرائيليين قوله، في هذه الوسائل، لا يحق لغيرهم، بأن سياسة الحكومة «الإسرائيلية» في الأرض المحتلة سنة 1967، تعبر عن قصر النظر وأحياناً عن العمى الكامل. ولكنهم يغفلون التطرق إلى وقائع الحياة اليومية بالنسبة إلى الفلسطيني، ويختارون البقاء في العموميات، واستخدام الإشارات المبهمة. فلا ترد على ألسنتهم، كلمة «احتلال» أو «اغتصاب» أو«تطهير عرقي». وتراهم يبذلون قصارى جهدهم، لتبرير، جنون السلطات «الإسرائيلية»، بما وقع لليهود في أوروبا، (على أيدي الأوروبيين)، وبالخوف من محرقة جديدة نهائية. ومهما يكن فإن هؤلاء الناس ينتقدون السلطة عندما يكونون خارجها، ولا يترددون بقبول المناصب التي تعرض عليهم أيا كان لون الحكومة وسياستها.

ففي دولة المستعمرين «الإسرائيليين»، تجد أحياناً، وزراء ينتمون إلى «اليسار» في حكومة يمينية متطرفة، وأحياناً أخرى وزراء، من جماعات جابوتنسكي وبيغن وشامير وشارون، في حكومة غالبية أعضائها ينتمون إلى «الاشتراكية الدولية». وكأن قانون الاستعمار يجيز أثناء حملات الترهيب والإبعاد ضد السكان الأصليين، ليس مخادعة الآخرين وحسب، وإنما مخادعة النفس أيضاً.

وربما يكون هذا هو السبب الذي حمل ريجيس دوبريه على الكتابة إلى صديقه «الإسرائيلي» الذي كان سفيراً في باريس في عهد شارون، ويدّعي بأنه «صهيوني متعاطف مع الفلسطينيين». A un ami israelien, Flammarion . وأغلب الظن أن دوبريه يغتنم هذه الفرصة للتعبير عن رأيه في محاور أساسية من محاور القضية الفلسطينية، استناداً إلى اعتقاده بأن مصارحة صديق يهودي «إسرائيلي» في مثل هذه الأمور باتت في هذا الزمان، أسهل وأقل مخاطرة من تناولها في حضرة مواطن فرنسي. لأن من الفرنسيين، كما يقول، من هم أكثر حماسة لـ «إسرائيل» من «الإسرائيليين» أنفسهم. ورداً على هذه الملاحظة، تحديداً، يأتي جواب الصديق «الإسرائيلي» كرجع صدى. «قرأت رسالتك في الطائرة التي كانت تقلني إلى الدوحة في قطر... وقبل ذلك طالعت صحف اليوم لأقف على آخر مفاجآت العملية التي وقعت في دبي، وكانت نتيجتها تصفية اختصاصي في تهريب الأسلحة إلى حماس. أما أنا فإنني أذهب إلى الخليج كل سنة لحضور اللقاء الدوري لنادي موناكو، وهو مجمع فكري، يضم أشخاصاً مهذبين يأتون من أوروبا، والبلاد العربية و«إسرائيل» وفلسطين، ليتباحثوا في موضوع الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني حتى الثـُمالة». وكأنه يريد أن يقول لدوبريه «لا تكن فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين. إننا نلتقي جميعاً في إمارات الخليج».

لا يخفي دوبرية في مطلع رسالته حزنه على شعب «إدوارد سعيد ومحمود درويش»، بحسب قوله، منذ «أن داخلته ثقافة الموت، وأطبق عليه نظام شرطة الأخلاق في قطاع غزة وفساد وقصور سلطة فلسطينية لا سلطة لها» في الضفة. ولكن يبدو أن خيبته، كان وقعها كبيراً، لما أظهره «الأقوياء والمنتصرون، الذين ينتمون مثله إلى نفس الجهة». فلقد تحولوا إلى متطرفين متشددين وتراجعوا «إلى ماض يطلون منه على الحاضر من فوهة مدفع دبابة ميركافا». بدءاً، يسأل الكاتب صديقه «الإسرائيلي»، إلى أي صهيونية ينتمي؟ فيقول أن تكون صهيونياً متعاطفاً مع الفلسطينيين كما تدعي، يعني أنك تقبل حل الدولتين المتجاورتين. أين الخريطة التي تبين الحدود؟ ولكن الخطيئة الأصلية اسمها النكبة : ثمانمائة ألف من السكان الأصليين، طردوا وهجروا بالقوة، بموجب الخطة دالت التي اقتضى تنفيذها سنة 1948، تحت قيادة بن غوريون جرف الكثير من القرى وإعدام عدد كبير من الناس في الساحات ليرتاع الباقون. بن غوريون لم يكن إذن، صهيونياً متعاطفاً مع الفلسطينيين.

لو كانت دولة «إسرائيل» مشروعاً استعمارياً أقامته الحركة الصهيونية على أرض شعب تم ترحيله لأمكن التغاضي عن الأمر، من وجهة نظر دوبريه، بذريعة أن اعتبارات واقعية سياسية كانت سائدة في أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي، هي التي فرضتها. ولكنه يرى أن المشكلة هي أن هذه الدولة الاستعمارية «لم تتوقف عن الاستعمار والاغتصاب واقتلاع الناس من أرضهم».

وهنا يضع أمام صديقه «الإسرائيلي» لائحة ثانية : ثمانية عشر ألف منزل هدمت، منذ سنة 1967، وسبعمائة وخمسون ألفاً من الفلسطينيين ألقي القبض عليهم وأودعوا السجون، في وقت من الأوقات، ومازال، في الراهن أحد عشر ألفاً منهم، معتقلين. وهناك ستمائة حاجز عسكري في الضفة الغربية، فضلاً عن الإهانات، وفظاظة تصرفات الجنود والمستوطنين، ثم يذكر صديقه «الإسرائيلي» بقانون «العودة» المعمول به، في يومنا هذا. الذي يعطي لليهودي الأجنبي، حتى لو نزل في فلسطين آتياً من كوكب مارس، إمكانية معاملة الفلسطيني وكأنه أجنبي، وأن عليه أن يستأذنه في الذهاب إلى حقله، وفي جني غلة زرعه.

وفي أوراق دوبريه عن الصهيونية، أيضاً، ما يكشف تواطؤ دول الغرب الاستعمارية معها. فلقد قبلت هذه الدول بأن يكون من واجب السكان الأصليين، إذا احتلت بلادهم، أن «يحترموا في كل وقت ومكان أمن المحتلين، من دون أي معاملة بالمثل». واصطنعت معاني جديدة، كما يقول، فصار حصار الناس في قطاع غزة، منة من المحتل الذي قرر سحب جنوده ومستوطنيه، وبدل القول إن القطاع أغرق تحت سيل من القنابل، يقال شنت «إسرائيل» حرباً، ليست متماثلة، ضد الإرهابيين، دفاعاً عن المدنيين. أما اغتيال ناشط فلسطيني، حتى لو كان داخل عمارة تعج بالساكنين المدنيين، فلقد قبلنا في الغرب، بتعبير «إصابة هدف» كما يقول «الإسرائيليون»، وليس «حكماً بالإعدام، وقتلاً»، لا ينقض إلغاء عقوبة الإعدام! والحائط قبلناه أيضاً وقبلنا تسميتكم له «حاجز أمني».

وفي ختام الفصل، الذي يتضمن إعادة نظر في موضوع الصهيونية، بين الحلم والحقيقة، وبين الإعلان عن النوايا والفعل، يشير الكاتب إلى الفرق الكبير، بحسب مفهومه بين دولة لليهود من جهة ودولة يهودية من جهة ثانية. بمعنى أن هذه الأخيرة، ستتحول حكماً، إلى «دولة للحاخامات ولجنرالات الجيش». فلقد استعمرت فلسطين بالتوراة والبندقية. وفي مثل هذا السياق، ليس غريباً أن يـُستبدل اسم مدينة نابلس باسم سيشيم. وأن تبقى «إسرائيل» دولة من دون دستور، تطبق فيها «الشريعة التوراتية»، ليصل دوبريه إلى خلاصة : «رحلت اليوتوبيا حاسرة الرأس، وعادت الأسطورة وقد اعتمرت القبة».

ولكن هذا كله، لا يمنع صديقه، الذي كان سفيراً لشارون في باريس، فضلاً عن أنه مؤرخ، من القفز فوق، الوقائع والبراهين جميعها. ليكرر، اللازمة نفسها، بأن الصهيونية تعني له، أرضاً يشعر اليهود بأنها أرضهم، ولا يستطيع أحد نفيهم عنها فيصنعون، كما يشاؤون مصيرهم المشترك. لماذا كان المستعمرون أول من استخدم الدين، فادعوا أن فلسطين هي أرض الميعاد، ثم ينكرون بعد ذلك على المقهورين حقهم بالرجوع إلى دينهم. كأن هذا الرجل لم يسمع يوماً، باللاجئين الفلسطينيين، ولم يقرأ حرفاً واحداً مما كتبه، زملاء مؤرخون مثله، و«إسرائيليون» أو كانوا «إسرائيليين» مثله. ورغم ذلك، فهو يدعي أنه يعترف للآخر، بنفس الحق الذي يريده لنفسه. متناسياً أن صيادي السمك في القطاع ليسوا أحراراً! وأن مصداقية ادعاءاتها تكذبها زمر المستوطنين في الخليل!

والعجب العجاب أن سفير شارون في باريس كتب في جوابه على رسالة دوبريه أيضاً، أنه يتبرأ، من صهيونية، «الثيران» التي تمسك بالسلطة في «إسرائيل» حالياً، وهي الصهيونية، التي ذكرها دوبريه، تحت تسميات كمثل صهيونية بيغين، وليبرمان وبلير وبوش. وبالتالي فإنه لا يرى جدوى من النقاش معهم، فهم من عالم وهو من عالم آخر كما يزعم.

ليت الفلسطينيين وأشقاءهم العرب، الذين يفاوضون، سراً وعلانية، تارة بطريقة مباشرة وتارة أخرى بطريقة غير مباشرة، يقرأون ما كتبه صديق دوبريه، عن المتطرفين الذي يقودون دولة المستعمرين، إنه يكاد أن يكون نوعاً من التوبة، فيعتبرون ولا يجرّون الشعب الفلسطيني إلى الوقوع في مصيدة أعدائه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2180774

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2180774 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40