الاثنين 8 كانون الأول (ديسمبر) 2014

مشكلة أولاد البلد

الاثنين 8 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par فهمي هويدي

الجرس جاءنا من سيوة، وهي إحدى الواحات النائية التي لا تقرأ أخبارها إلا في صفحات الحوادث، إلا أن خبرها هذه المرة نشر على الصفحات الأولى لأنه كان متعلقا بوباء وليس بحادثة عادية، ذلك أن «الحصبة» انتشرت بين أطفال الواحة، مما أدى إلى وفاة ثمانية منهم، في حين أن الإصابة ضربت 136 شخصا يعالج الآن 38 منهم، في حين أن الباقين خرجوا حتى إشعار آخر.
أخبار الحصبة تناقلتها صحف الصباح أمس (الأحد 7/12)، وكما هي العادة، فقد تم استنفار المسؤولين في محافظة مرسى مطروح ووزارة الصحة، فأعلنت الطوارئ في المحافظة وسارعت وزارة الصحة إلى تزويد مستشفى سيوة والوحدات الصحية بها بعدة مئات من الجرعات اللازمة لمكافحة المرض، وأوفدت أعدادا من الأطباء والممرضات. واهتم المسؤولون على مختلف المستويات باحتواء الوباء والحيلولة دون انتقاله إلى مناطق أخرى. خصوصا أن ثمة أجراسا أخرى أشارت إلى ظهور حالات أنفلونزا الخنازير في بعض محافظات الصعيد إضافة إلى محافظتين في منطقة الدلتا. وبدورها استدعت جهودا أخرى للاحتواء والحصار.
سألت من أعرف من شيوخ الطب عن تفسير لمثل هذه المفاجآت التي تداهمنا بين الحين والآخر، فقالوا إنها عوامل عدة تساعد على ظهورها، منها قلة الوعي بالاحتياطات الصحية التي تعد التطعيمات في مقدمتها، ومنها الفقر المؤدي إلى سوء التغذية ومن ثم ضعف المناعة (مساعد وزير الصحة ذكر أن أغلب الأطفال الذين ماتوا بسبب الحصبة ثبت أنهم يعانون من سوء التغذية). من تلك الأسباب أيضا ضعف الرعاية الصحية وارتفاع تكاليف العلاج الخاص، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى عدم الذهاب إلى الأطباء إلا بعد أن يتمكن منهم المرض بحيث يستعصي علاجه، أضافوا: من الأسباب أيضا دور العوامل البيئية، التي تساعد على انتشار الأمراض، ومنها تلوث الأجواء وعدم نقاء مياه الشرب التي تختلط أحيانا بمياه الترع والمصارف.
النقطة الأهم التي أثارها أولئك النفر من شيوخ الأطباء تمثلت في انتقادهم للخريطة الصحية للمصريين، التي لا يزال يكتنفها الالتباس والغموض. وهي نقطة شرحها الدكتور أحمد شقير مدير مركز أمراض الكلى والمسالك البولية التابع لجامعة المنصورة على النحو التالي: رغم التقدم الطبي الحاصل في مصر إلا أن هناك ثغرة كبرى تعترض المسيرة تتمثل في عدم وجود قاعدة بيانات ترسم خريطة الأوضاع الصحية للمصريين، وتسمح للباحثين وحتى المسؤولين بالتعرف على أمراضهم، نوعياتها وأماكن انتشارها، وفي غياب هذه الخريطة فإن وزارة الصحة ومعها الأطباء بل والدولة ذاتها هؤلاء جميعا يخوضون حربا على جبهة عريضة لا يعرفون لها أولا من آخر. صحيح أنه بات شائعا بين الأطباء أن المجتمع المصري يعاني أمراضا معينة مثل الأورام السرطانية والفشل الكلوي وأمراض الكلى والمسالك البولية والتهاب الكبد الوبائي (فيروس سي) إضافة إلى الرمد، لكن هذه الأمراض يتعذر ترتيب أولوياتها. فلا نحن نعرف بالضبط ما هو المرض الأكثر انتشارا بين المصريين، أو بين طبقاتهم المختلفة، كما أننا لا نعرف الأماكن التي ينتشر فيها المرض أكثر من غيرها. صحيح أن أطباء كل تخصص ربما كانوا على علم بتلك التفاصيل من واقع خبراتهم، إلا أن ذلك ليس حاصلا على المستوى الطبي العام.
في رأى الدكتور شقير أن هذه العملية الضرورية والبسيطة مما ينبغي أن تنهض به وزارة الصحة، لأنه لا يمكن أن توضع سياسة صحية أو خطة للدفاع عن صحة المصريين، دون أن تتعرف الوزارة المسؤولة على ماهية الأمراض الأكثر شيوعا بين المصريين حتى تكافحها وتحشد طاقاتها لمواجهتها حسب أولوياتها ومدى ما تمثله من خطورة.
لقد كانت البلهارسيا يوما ما خطرا يهدد حياة قطاع عريض من المصريين، وحين استشعرت الجهات المعنية ذلك فإنها عبأت قدراتها لمواجهة ذلك المرض اللعين، حتى قضت عليه خلال عقدين أو ثلاثة. ولكن بعد اختفاء البلهارسيا ظهرت مجموعة أخرى من الأمراض الخطرة التي تتطلب احتشادا ومواجهة جادة، وتلك مهمة لا تتأتى إلا في ظل توافر قاعدة للبيانات تحدد حجم الخطر الذي يمثله كل مرض حتى يمكن إعداد العدة للتصدي له.
إذا سألتني لماذا لا تتوافر في مصر مثل تلك البيانات، فردي أن ثمة أسبابا عدة أدت إلى ذلك منها الإهمال والتركيز على الأمن السياسي دون الأمن الاجتماعي. لكنني أزعم أن السبب الأهم أن المسألة تهم قطاعات في المجتمع تضم شرائح الفقراء ومتوسطي الحال، الذين لا يسمع لهم صوت ولا تنشر لهم صور، فلا هم من وجهاء القوم وأثريائهم ولا هم من الفئات الخاصة التي تغدق عليهم الصناديق الخاصة، ثم إنهم ليسوا من المستثمرين أو السياح، مشكلتهم أنهم أولاد البلد وأصحابها، لكنهم ليسوا أصحاب القرار فيها. ولذلك صار حظهم كما رأيت، ليس في العلاج والصحة فحسب، ولكن في التعليم والإسكان أيضا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165997

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2165997 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010