الجمعة 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

قضية الفلول: عدالة أم انتقام؟

الجمعة 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par رغيد الصلح

تستحق التجربة التونسية في التغيير كل ثناء . لقد بدأت رحلة “الربيع العربي” في تونس سلمية وتمكنت من المحافظة على هذا الطابع . ولكن رغم السجل الذهبي للتغيير التونسي، فإن نتائج الانتخابات التونسية تثير النقاش والانتقاد خاصة بين الذين لا يتسع صدرهم للفلول . وهم يعتبرون “حزب نداء تونس”، من الفلول . أنه حزب التجمع الدستوري باسم جديد . وهم يجدون أن حصول الباجي قائد السبسي، زعيم الحزب على أعلى نسبة من أصوات المقترعين، حدثاً يثير القلق، وأنه نذير بعودة التجمعيين إلى الحكم مما ينبئ بفصل ختامي مظلم للربيع التونسي .
هذه المشاعر موجودة أيضاً في الاقطار العربية الأخرى التي ألمت بها تغييرات كبرى، فأطاحت بالنخب الحاكمة السابقة وحولت أفرادها من حكام ومسؤولين إلى مجرد فلول تتحين الفرص للعودة إلى المسرح السياسي إذا أفسح لها المجال . فإذا نجح هؤلاء أو البعض منهم في تحقيق هذه الغاية عبر صناديق الاقتراع، كما فعل “الندائيون” في تونس، تتحول انتقادات مناوئي النداء على حنق شديد يطال كل من اتخذ موقفاً متهاوداً في هذه القضية .
إن قضية الفلول هي واحدة من القضايا العديدة التي نشأت في خضم التغييرات المهمة التي طرأت على المنطقة . وهي مثلها تحتاج إلى معالجة عقلانية، أي تدابير عادلة تعجل ولا تعرقل الاصلاح السياسي والديمقراطي الذي تحتاجه دول الربيع العربي . ومثل هذه السياسة الراشدة تتطلب مراعاة الاعتبارات التالية:
1- خطأ الاعتقاد الشائع القائل بأن الفلول ليسوا أكثر من مجموعة قليلة من الأفراد الذين كانوا يحيطون بالحكام السابقين . وخطأ الرأي القائل بأن إخراج هؤلاء من الحياة العامة وحرمانهم من الحقوق السياسية والمواطنية يكرس مبدأ الثواب والعقاب من دون أن تكون له أية آثار سلبية على المجتمع وعلى الصيرورة الديمقراطية فيه . مقابل ذلك أثبتت الوقائع الملموسة أن تعداد الفلول ومؤيدي الانظمة السابقة ليسوا كما يصح إهماله . هذا ما أثبتته نتائج الانتخابات التي جرت في تونس بالأمس وقبلها الانتخابات الرئاسية التي جرت في مصر بين المرشحين محمد مرسي وأحمد شفيق . هذا ما أثبتته أيضاً دراسة نشرت في كتاب فرانسيس فوكوياما بعنوان “بناء الأوطان” إذ جاء فيها أن نسبة الذين يمكن وصفهم بالفلول في أحد المجتمعات العربية لا تقل عن 8% من مجموع السكان .
2-لا تقتصر أهمية الفلول على حجمهم العددي فحسب، وإنما على الخبرات الادارية والعلمية التي اكتسبوها بحكم صلتهم بالحكم والإدارة والأحزاب الحاكمة في الدول المعنية، وعلى الصلات العملانية الواسعة التي تشملهم وتسمح لهم بالتعاون والقيام بالمجهودات المشتركة وتسيير آلة الدولة بأقل كلفة ممكنة . لذلك اعتبر لاري دياموند الباحث الأمريكي البارز المختص بالانتقال إلى الديمقراطية أن إقصاء هذا النمط من المواطنين بالجملة وعبر السياسات الإقصائية سوف يعرقل بناء الديمقراطية في المجتمعات العربية .
3-إضافة إلى ذلك، وحيث إن أعداد هؤلاء الفلول قد تصل إلى الملايين، خاصة في مجتمع كبير مثل مصر ويضم قطاعاً عاماً واسعاً، فإنه لا بد من التمييز بين أولئك الذين كانوا يتحملون مسؤوليات كبرى في البنيان السياسي للدولة وفي الحزب الوطني الحاكم، من جهة، وبين أولئك الذين كانوا مجرد أعضاء عاديين في الحزب والذين انتسبوا إليه دون التزام كبير بتعليماته واندفاع في تنفيذ سياساته ومساهمة ناشطة في حياته الداخلية وهندسة سياساته ومشاريعه، من جهة أخرى . والتمييز بين الفريقين يعني الامتناع عن معاقبة من كانوا مجرد منتسبين إلى الحزب، والاكتفاء بتطبيق العقوبات بمن يثبت ارتكابه أعمالاً منافية للمبادئ الدستورية وللقوانين المرعية .
4- إن تجنب معالجة قضية الفلول بعقل انتقامي وإعادة تأهيل الاكثرية منهم سياسياً ووطنياً يبعدها عن تحولها إلى شريحة اجتماعية ناقمة ومحبطة . ويحول بينها وبين البحث عن فرص وطرق للرد على من سعى إلى الانتقام منها والإساءة إليها . وكثيراً ما حدث أن انضم هؤلاء إلى أكثر الجماعات تطرفا . فإذا حدث ذلك حقاً وتحول هؤلاء من عاملين في خدمة الدولة والمجتمع، إلى عاملين في خدمة أعداء الدولة، فإن الأذى الذي يلحقونه ببلدهم يكون أكبر من الأذى الذي يتسبب به الأفراد العاديون الذين ينضمون إلى هذه الجماعات . يعود ذلك إلى أنهم يملكون الخبرات والمعارف والصلات التي تسمح لهم وللمنظمات التي يعملون في خدمتها بإلحاق الأذى المضاعف بالدولة التي خدموها آنفاً .
إزاء هذه الاعتبارات، ما هو الموقف الأفضل الذي يمكن أن تتخذه الأحزاب والجماعات السياسية العربية تجاه قضية “الفلول” إياها؟ تعتقد بعض الأحزاب والقيادات السياسية العربية أن الطريقة الأفضل لمعالجة هذه القضية هي عبر قوانين العزل السياسي . هذا ما طالبت به بالفعل جماعات مناهضة لحزب نداء تونس وللتجمع الدستوري من قبله، غير أن البعض رفض هذا المقترح ووقف ضده . واتخذ موقفاً حاسماً على هذا الصعيد عندما قال: إن الدستور والقانون الانتخابي هما الأساس والمحدد للعلاقة مع الجماعات الأخرى، فكل من قبل بهما . . “هو من أبناء الثورة مهما كان ماضيه . فإذا عنده في ماضيه الشخصي مايعاب عليه فهناك المحاكم” .
يستحق هذا الرأي التقدير، ويضيء على العقلية التي لعبت دوراً كبيراً في حماية ثورة تونس من المنزلقات والسير بها على طريق التحول السلمي . لا يبدل من هذا التقدير أن نلاحظ بأن المحاكم قد تكون منحازة، وقد تحمي جماعات سياسية من دون حق، وتعاقب آخرين من دون موجب . ولكن الجواب على ذلك هو ليس في التنكيل الجماعي بعشرات بل بمئات الألوف من البشر وإنما في السعي إلى ترسيخ استقلال القضاء وحمايته من تدخل السلطة التنفيذية بكل حزم وعبر كافة الوسائل المشروعة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 36 / 2165376

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165376 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010