نتكلم اليوم عن الإجماع، عن التوافق، عن الوحدة عن التآخي وما إلى ذلك من الأهداف النبيلة التي نتوق إليها جميعا لكي نُجنِّب بلدنا ونُجِّب أنفسنا أيّ مصائب قادمة لا قدر الله، وذلك أمل في حد ذاته ينبغي أن نتعلق به مهما كان ضئيلا.. إلا أنه علينا أن نعلم أن تجسيد هذا الأمل يحتاج إلى نقلة نوعية في خطابنا السياسي في جميع المستويات.. كلنا معنيون اليوم بإيجاد المُناخ الفكري والمعنوي قبل السياسي لتحقيق مثل هذه الغايات. لا يمكن لأي مِنَّا أن يتنصل من مسؤوليته مهما كانت درجة هذه المسؤولية “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” (من الحديث الشريف).
لم يعد مقبولا، ولا ملائما اليوم أن نستمر في ذلك الخطاب الذي إما يضع الناس في صفة الملائكة أو يضعهم في صفة الشياطين. وأحيانا إما في صف الآلهة أو في صف الوحوش على حد تعبير أرسطو. الإنسان ليس إلها ولا وحشا، وليس ملاكا أو شيطانا، إنما هو كائن اجتماعي وسياسي يسعى لأن يؤدي رسالته في هذه الحياة كبشر يتوق إلى الخير وإلى الفضيلة.
خطابنا السياسي ينبغي أن يأخذ هذا المنحى ويجد نقطة التوازن المفقودة هذه إذا أراد بالفعل أن يبحث عن مخرج يكون في صالح البلاد والعباد. أما تلك الثنائية بين الملاك الذي كله خير أو الشيطان الذي كله شر فلا ينجرّ عنها سوى الحب الأعمى أو الكره المقيت، وكلاهما لا يخدم مشروعنا السياسي إذا كان لدينا مشروع ونريد بناء دولة بعيدا عن هذا اللامنطق المشين.
زمن السياسي ذي الصفحة البيضاء ناصعة البياض لم ولن يوجد، ودَفعُ الخطاب باتجاه تبييض صفحة هذا على حساب ذاك لن يحقق أيّ غاية.. المطلوب اليوم هو رفع شعار كل الناس أبرياء إلى أن يثبت العكس وكل التهم باطلة إلا إذا ثبتت بالدليل وفَصَل فيها القانون.. أليس من الأجدى لنا أن نُبقي أحكامنا مشروطة بحكم القضاء بدل أن تكون مطلقة هكذا تصيب وتخطئ من تشاء؟ أليس من واجبنا أن نستبدل أحكامنا المطلقة هذه بدعوتنا إلى تطهير القضاء حتى يقول كلمة الحق؟ أليس من واجبنا أن نبدأ من حيث ينبغي أن نبدأ، أن نجمع ونتوافق ونتحد أولا على أن نَخرج من صفة الأحكام المطلقة إلى صفة الأحكام المشروطة بحكم القضاء أو نكتفي بقول: الله أعلم، من هو أقرب إلى الشياطين ومن هو أقرب إلى الملائكة..