الجمعة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

من يقف على جبهة الصراع الفكري في بلادنا؟

الجمعة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par محمد سليم قلالة

لعلّ التركيز الذي نشهده اليوم على جبهتي الصراع الأمني والسياسي يكاد ينسينا الاهتمام بجبهة لا تقلّ أهمية عن الجبهتين الأولى والثانية، هي جبهة الصراع الفكري، بالرغم من أن هذه الجبهة الأخيرة تُعدّ في تقديرنا أساس الانتصار أو الهزيمة في الجبهتين سالفتي الذكر. من ينبغي أن يقوم عليها اليوم؟ وكيف؟ وما هي الوسائل؟ أليس الصراع اليوم شاملا على كافة الجبهات؟ هل يكفينا تعزيز الجبهة الأمنية بآلاف الجنود، وتحصين الجبهة السياسية بعشرات الأحزاب والقيادات، في الوقت الذي نُبقي فيه جبهة الصراع الفكري مفككة، مخترقة قابلة للتحطم في أيّ لحظة من اللحظات؟

لقد علَّمنا التاريخ أننا لم نُستعمَر إلا بعد أن تَمّ تحطيم الأساس الفكري الذي كانت تقوم عليه دولنا. عندما غُيِّب العقلُ المسلم عن فهم شؤون الدين والدنيا تحوّلنا إلى لقمة سائغة في فم الأعداء. تناحرنا، وجرى تقسيمنا، ثم تمت السيطرة علينا بلا شفقة ولا رحمة في آخر المطاف.

لقد جاءت السيطرة العسكرية على أقاليم الشعوب العربية والإسلامية، تاريخياً، بعد أن تخلف العقل المسلم وسهَّل تحطيم البنية الفكرية والثقافية التي كانت تقوم عليها حضارتنا بعد نهاية عصر الموحدين في 1269م على حد تقسيم مفكرنا الكبير مالك بن نبي رحمه الله.. بعد أن أُحرقت مؤلفاتُ ابن رشد، واتهم بالزندقة، وأُخرجَ الناسُ للشارع مهللين مكبرين لذلك، أحد أيام نهاية القرن 12م، كان ذلك بمثابة الإعلان الرسمي عن موت العقل المسلم، وعن بداية الانحطاط الذي ستكون نهايته الاستعمار والسيطرة بكل ما تحمل العبارة من معنى. أي أن جبهة الصراع الفكري انهزمت قبل جبهة الصراع السياسي والعسكري، بل كان انهزام الجبهتين الأخيرتين نتيجة لها.

هل ينبغي اليوم وغدا أن نكرر التجربة ذاتها ونعتقد أنه باستطاعتنا حماية دولنا من السقوط في مخططات السيطرة الاقتصادية والعسكرية والسياسية من غير تحصين الجبهة الفكرية ومن غير أن نضع على رأسها قادة في مستوى إدراك عمق المعركة وأساليبها، وفي مستوى القدرة على توفير الإمكانيات للانتصار فيها؟

هل ينبغي علينا أن نراجع قدراتنا في الدفاع الفكري مثلما نراجع دوريا قدراتنا في الدفاع العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي؟ أم نُبقي هذه الجبهة تتحرك من تلقاء ذاتها من غير أن نعيد النظر في استراتيجياتها المختلفة إن في الدفاع أو الهجوم أو التدريب أو الوسائل التي تستخدم؟

أليس من واجبنا اليوم وغدا أن نسأل: أيُّ الحقول التي ينبغي أن تمسها جبهة الصراع الفكري؟ هل الثقافة أم الإعلام أم التعليم أم الشؤون الدينية أم التجارة أم السياحة أم الرياضة أم الشباب أم البريد وتكنولوجية المعلومات أم كل هذه القطاعات مشتملة؟ من الذي ينبغي أن يكون مسؤولا على توحيد العمل في كافة هذه القطاعات؟ وأيّ استراتيجية ينبغي أن نَتّبع على مدى الخمس أو العشر سنوات المقبلة؟ هل نحن مدركون أن الجبهة الأكثر اختراقا، والجبهة الأكثر تهلهلا اليوم إنما هي جبهة الصراع الفكري قبل الأمني والسياسي والاقتصادي؟ ما الذي تقوم به شبكات التواصل الاجتماعي، وشبكات البث التلفزي والإعلامي عبر الأقمار الاصطناعية، وشبكة الانترنت والجيل الثالث والرابع من الاتصال عبر الهواتف النقالة، وسياحة الكبار والصغار وتجارة الملابس والحاسوبات والأقراص المضغوطة، والتكوين الديني في المساجد وعبر قنوات البث الحي، ومقابلات كرة القدم وكأس العالم من نقل لرسائل سهلة الاستيعاب لملايين من شبابنا؟ هل من مرصد مُوَحَّد أو هيئة قائمة بذاتها لتبحث في العلاقة بين كل هذه القطاعات ومجال الصراع الفكري ومدى التأثير على العقول والنفوس لإعدادها من أجل قَبول تغييرٍ قادم بالطريقة التي يريدها برنار هنري ليفي والمخابر التي تقف خلفه وتعمل بلا هوادة على تكريس سيطرة لا قِبل لنا بها، على عقولنا قبل بلداننا؟

ألسنا اليوم نعيش مرحلة تشبه مرحلة ما قبل الاستعمار في القرن التاسع عشر، وما بعد الاستقلال في القرن العشرين لإحكام السيطرة علينا بوسائل جديدة؟

ألم تقم أوروبا القرن التاسع عشر بالدفع بجيوش المستشرقين إلى ديارنا قبل أن ترسل جيوشها الحقيقية؟ ألم تحتلّ بلجيكا الكونغو بواسطة مُغامر وإعلامي بريطاني واحد هو rowlands stanly الذي جندته لتحضير الأرضية لها قبل أن تُحكِم السيطرة على هذا البلد لمدة زادت عن الـخمسين سنة؟ هل ينكر أحدٌ تلك الأدوار التي قام المستشرقون لدراسة الشرق قبل أن يحتله الغرب وأثناء ذلك الاحتلال؟ من “موير” إلى “رينان” إلى “شاتوبريان” إلى “ماسينيون” إلى “جاك بيرك” حديثا؟

وكم كانت وسائل هؤلاء مقارنة بالوسائل التي يمتلكها الاستشراق الحديث اليوم من مراكز بحث ودراسات وأدوات قصف فكري عن بُعد لا توقفها أيّ حدود؟ ليس هناك أي مجال للمقارنة ونحن نرى اليوم كم هي جبهتنا الثقافية والفكرية والإعلامية مخترَقة وكم هو قليلٌ عدد القائمين على ثغورنا الثقافية المهدَّدة بكل الطرق، وكم هي الوسائل المتاحة بين أيديهم ضعيفة إن لم تكن منعدمة؟

كم تساوي الميزانيات المخصصة للدفاع الفكري أمام باقي الميزانيات المخصصة للقطاعات الأخرى؟ أليس من واجبنا أن ندعو إلى ضرورة قيام هيئة وطنية مشتركة للتنسيق في مجال الدفاع الفكري بميزانيتها وهياكلها واستراتيجييها الخاصة تُوَحِّد الجهود القائمة وتتمكن من رسم السياسات المضادة التي تستطيع أن تحمينا من الغزو القادم؟

إننا بلا شك في مرحلة حرجة من تاريخنا، ليس لأن مخططات الآخرين قويّة تجاهنا إنما لكوننا لم نجد وسائل الدفاع الملائمة ولم نتكيف مع التكنولوجيات الجديدة المتاحة؟ إننا نؤمن بأن كل محاولات بث تلك الأشكال المتعددة من الخلافات الفكرية والصراعات الطائفية والمذهبية وذلك الإحياء المدروس لنعرات قبلية ولفروق في المذاهب كانت إلى فترة قريبة من التراث الغابر، ليس من قبيل الصدفة، بل هو نتاج صراع خفي على تلك الجبهة غير المرئية التي نُسمِّيها جبهة الصراع الفكري، هي التي تُغذي الإرهاب، وتُغذي الانقسام والاقتتال وتُهيئ المجتمعات إلى الانفجار في اللحظة التي تريد.

ونحن جميعا نتحمل مسؤولية ذلك، إنْ في قطاعات الإعلام والتربية أو في القطاعات المصنِّعة والمروِّجة لوسائل نقل الأفكار من تجارة وصناعة وبريد واتصالات. كل هذه القطاعات معنية بجبهة الصراع الفكري...

لذا أصبح اليوم لزاماً علينا أن نعيد إثارة الموضوع مرة أخرى باعتبار أن بلادنا خاضت من قبل صراعات على مستوى هذه الجبهة وانتصرت فيها، إلا أن صراعات هذا اليوم أصبحت تأخذ أشكالا جديدة ووسائل مبتكرة، ومحتويات تختلف عن تلك التي استخدمها المستشرقون أو المستكشفون الذين سبقوا موجات الاستعمار المتتالية.. كل هذه تحتاج إلى إعادة النظر في طرح السؤال الأساسي الذي نحن اليوم في حاجة إلى طرحه: من يقف على جبهة الصراع الفكري في بلادنا؟

سؤال تحتاج الإجابة عليه إلى أكثر من مقال نعود إليه في الأسبوع المقبل بإذن الله.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2166031

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع سليم قلالة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2166031 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010