من حيث المبدأ لا يرتبط قيام دولة فلسطين بأي تداعيات إقليمية أو دولية .. إنما يرتبط بحق الشعب الفلسطيني في ممارسة سيادته وتقرير مصيره على أرضه.. ولقد قدم الشعب الفلسطيني من التضحيات والجهد والمقاومة ما يؤهله باقتدار على تثبيت وجوده السياسي في دولة مقتدرة تنتزع الاعتراف الدولي، ولقد أولت دول العالم هذا الاهتمام الفلسطيني عناية فائقة بأن سارع معظمها في الاعتراف بوجود الدولة الفلسطينية وإنها دولة تحت الاحتلال..
هذا ما ينبغي أن لا يفارق يقين الفلسطينيين والعرب وأصدقاء فلسطين من أحرار وشرفاء العالم وأن لا يرهنوا نيل حقهم بأي ظرف دولي أو إقليمي وأن تظل عزيمتهم دفاعة لمبادرات نضال مستمر حتى تحقيق أهدافهم المقدسة.
لكن هذا الايمان وهذه العزيمة يحتاجان وعيا وبصيرة بالواقع الإقليمي والدولي وأن يقام العمل على هدي من إدراك الواقع لكي تأتي الخطوات بفائدة محققة بأقل التضحيات.. ولكي يتم تجنب الكمائن المنصوبة أمام الشعب الفلسطيني.. فالوعي في هذه الحالة إنما هو المصباح الكاشف في ظلمات الفتن والصراعات العديدة في المنطقة.
يتحرك الفلسطينيون اليوم على أرضية إنجازين كبيرين الأول انتزاعهم من الجمعية العمومية للأمم المتحدة اعترافا بدولتهم الأمر الذي أهلهم للانضمام للمنظمات الدولية التي تمنحهم من الحقوق الدولية ما تمنح أي دولة بما في ذلك حماية مواطنيها من أي عدوان.. والإنجاز الثاني تجاوز الفلسطينيين عقبة الانقسام بعد أن أبلت المقاومة الفلسطينية في ملحمة الصمود والاقتدار في قطاع غزة متصدية لآلة البطش الصهيونية..
ويتجلى التصميم الفلسطيني في موقف رسمي حسم خياراته بشكل واضح أن لا عودة لمفاوضات تكرس المماطلة الصهيونية كنهج ثابت وتغطي عملية استيطان شره.. وأنه لابد من جدول زمني محدد للانسحاب الاسرائيلي من أراضي الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.. وأن المجتمع الدولي مدعو لتحمل مسؤولياته كاملة في هذا الخصوص..
ويواجه الموقف الفلسطيني عقبات واضحة في عدم استجابة صناع السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية لهذا المطلب المحق والذي تقر به المؤسسات الدولية والذي تم تضمين معناه في الاتفاقيات السابقة لاسيما اتفاقية أوسلو..ورغم ما يبدو من اختراق في الموقف الاوروبي لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية تمثله السويد وإشارات من بريطانيا إلا أن الأمر لازال مبكرا للحديث عن موقف أوروبي واسع.. ومن نافلة القول إن إسرائيل تتشبث بعدوانها المستمر المتمثل بتمسكها بالاحتلال ورفضها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في 1967 .
ليست هذه كل أطراف المشهد الحالي..فلقد دخل على المشهد تحول عنيف قد يكون أعطى بداية المشروع الاستعماري الغربي الجديد دفعة انطلاقه..فلطالما تحدث مهندسو السياسة الأمريكية الخارجية ومروّجوها بضرورة إنشاء شرق أوسط جديد يكون نتاجا لفوضى خلاقة تبثر المكونات الثقافية والطائفية والقومية في المنطقة ثم يصار بعد ذلك لبناء كيانات على أسس طائفية وقومية وجهوية، الأمر الذي يحقق سهولة تدفق البترول والمحروقات على السوق الغربية وبالأسعار المناسبة، وتوفير شروط وضمانات حقيقية في أمن إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي على المنطقة.
وما يجري الآن بعد أن أصبحت داعش عنوان الحرب الكونية كما كانت القاعدة من قبل..إنما يشير إلى اندفاع الاستراتيجية الغربية بقيادة الأمريكان بقوة شديدة تمثلت في حشد أكثر من 80 بلدا خلف الحملة الأمريكية التي أعلن مسؤولون أمريكان أنها ستستمر 30 سنة قادمة وأن تكلفتها تبلغ مئات المليارات من الدولارات وسيكون نصيب الدول العربية معتبرا من تكلفة الحرب ..
وينبغي عدم المرور بسرعة أمام الأرقام لأنها تكشف عن طبيعة المشروع الاستعماري..لابد من تأمل المعطيات إذ هل من المنطقي والمعقول أن تضطر الولايات المتحدة الامريكية الى الاستنجاد بأكثر من 80 دولة في حربها على تنظيم لا يبلغ تعداد مقاتليه عن بضع عشرات الآلاف..وكما يقول كثيرون أن الامر يبدو أنه إعادة انتشار للقوات الأمريكية في العراق وسوريا..ولم يتأخر المسؤولون الأمريكان في الإعلان عن نيتهم اقتحام كل ما يمكن الوصول إليه برا وأنهم لن يتأخروا. وفي اسطمبول انتزعت الحكومة من البرلمان تفويضا للحكومة بعمل اللازم حتى الدخول في أراضي سورية.
الجيوش وقياداتها وصكيك السلاح وكل ما من شأنه إثارة مناخ الحرب والصراع ليست مسألة للفرجة والدعاية إنما هي خطة مدروسة محسوبة بإتقان لحرب متواصلة تدرس فيها معالم الشخصية الحضارية والمصالح العليا لأبناء المنطقة.
طائرات أمريكا من دون طيار وعملياتها المتواصلة في طلعات، بلغت الآلاف وخسارات بلغت المليارات، يعني أن الحملة متواصلة وأنها تدخل في إطار التواجد الاستراتيجي في منطقتنا.. فهل سيكون مناسبا لهم قيام دولة فلسطين على أرض فلسطين..أم أنها ستعلن تصدعا جديدا في إسرائيل وعدم قدرة على مواجهة المتحدي المتنامي.. إن طائرات أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالاضافة لحلفاء الولايات المتحدة تقصف عن قوس واحدة فيما قوات داعش تتقدم في سوريا والعراق.
أمريكا تدشن حربها على الموجة الثانية من الإرهاب فبعد أن انتهت من القعدة وأعلنت ذلك رسميا عندما أعلنت عن اغتيالها لأسامة بن لادن، فهاهي تتحرك مع تيارات الحرية والعدالة أو التنوير ضد الدكتاتورية والإرهاب والتطرف.. وجعلت عدوا لها داعش لتصوغ للأوروبيين والأمريكان عنوان حربهم فيما النفط والمحروقات هو ما يسيل لعابهم كما أن المعشوقة إسرائيل في بؤبؤ أعينهم.
في ظل هذه الحرب الواسعة الشاملة الطويلة هل سيسمح الغرب بانسحاب إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية.. إنها المعطيات المرئية والله يدبر ويختار.. ويمكرون مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.. ويمكرون والله خير الماكرين..تولانا الله برحمته.