الثلاثاء 27 تموز (يوليو) 2010

خواطر عن صحة السيد الرئيس

الثلاثاء 27 تموز (يوليو) 2010 par د. علاء الاسواني

في الثمانينيات كنت أدرس في الولايات المتحدة للحصول على درجة الماجستير في طب الأسنان وأتدرب في الوقت نفسه كطبيب في مستشفى جامعة ألينوي بمدينة شيكاغو .. كان المرضى الذين يترددون على المستشفى أميركيين فقراء، معظمهم من السود والملونين. كان لكل مريض ملف طبي دقيق يحمل تاريخه الطبي وحالته الصحية ونتائج التحاليل التي قام بها. وكان أول ما نتعلمه كأطباء، أن الملف الطبي له حصانة فلا يجوز لأي شخص الاطلاع عليه بدون اذن صاحبه. اذ تعتبر الحالة الصحية لأي شخص من أسراره الشخصية التي يحميها القانون في الولايات المتحدة. ثم حدث في تلك الفترة أن تعرض رئيس الولايات المتحدة (رونالد ريغان آنذاك) الى أزمة صحية مفاجئة، نقل اثرها الى المستشفى حيث خضع لجراحة سريعة لاستئصال ورم صغير في الامعاء. منذ اليوم الأول تم الاعلان رسمياً عن كل تفاصيل المرض ونوع الجراحة التي خضع لها الرئيس وآثارها الجانبية المحتملة. بل ان التلفزيون الأميركي استضاف مجموعة أطباء وسألهم جميعاً عن تأثير الأدوية التي يتناولها الرئيس ريغان على تركيزه الذهني وحالته النفسية. الغريب أن الأطباء أكدوا أن هذه الأدوية ستجعله غير صالح لاتخاذ القرارات لمدة ثلاثة أسابيع يعود بعدها الرئيس الى حالته الطبيعية. الحق أنني وجدت في ذلك مفارقة كبرى. المواطن الأميركي الفقير البسيط الذي يتردد على مستشفى الجامعة لا يجوز لمخلوق الاطلاع على حالته الصحية الا بإذن منه، وفي الوقت نفسه عندما يمرض رئيس الدولة يصبح من حق الشعب الأميركي أن يعرف كل شيء عن مرضه والأدوية التي يتناولها..

الفكرة هنا من المبادئ الأساسية للنظام الديموقراطي. المواطن العادي لا يتولى منصباً عاماً وبالتالي فإن صحته أو مرضه شأن لا يخص أحداً سواه، وحياته الخاصة لها حصانة قانونية، أما رئيس الدولة، فهو موظف عام، انتخبه المواطنون لأداء مهمة معينة لفترة محددة، وهم يستطيعون في أي وقت أن يسحبوا ثقتهم منه فيفقد منصبه فوراً. الرئيس في النظام الديموقراطي خادم الشعب بمعنى الكلمة وهو ما أن يتولى منصبه حتى يفقد خصوصيته وتصبح حياته كلها مكشوفة أمام الناس. من حق الرأي العام أن يعرف أدق تفاصيل حياته، بدءاً من مصدر ثروته وحجمها وعلاقاته العاطفية وحتى حالته الصحية والأمراض التي يعاني منها، لأن القرارات التي يتخذها الرئيس تؤثر في مصير ملايين البشر، وأي خلل في تفكيره أو اضطراب في حالته النفسية، قد يؤدي الى كارثة يدفع ثمنها الوطن والمواطنون جميعاً.

تذكرت كل ذلك وأنا أتابع الضجة المثارة الآن في مصر حول صحة الرئيس مبارك. فقد نشرت صحف عالمية عديدة تقارير زعمت فيها أن حالة الرئيس مبارك الصحية متدهورة، من أجل الرد على هذه التقارير ظهر الرئيس مبارك في أكثر من مناسبة عامة وشنت الحكومة المصرية حملة مضادة نفى المسؤولون خلالها تماماً أن يكون الرئيس مريضاً، وأعلنوا أن صحته في أحسن أحوالها بل وأكدوا أن الموظفين الذين يعملون مع الرئيس مبارك (البالغ من العمر 82 عاماً) يلهثون خلفه ويعجزون غالباً عن مجاراته في تحركاته الكثيرة نتيجة لنشاطه الزائد وحيويته الفائقة. على أن تقارير الصحافة الغربية عن مرض الرئيس مبارك لم تتوقف بل زادت، عندئذ صدرت التعليمات لرؤساء تحرير الصحف الحكومية فبدأوا حملة صحفية شاملة أكدوا فيها أن حالة الرئيس الصحية ممتازة وأدانوا بشدة تقارير الصحافة الغربية واعتبروها دليلاً قاطعاً على مؤامرة صهيونية استعمارية كبرى خبيثة هدفها تشكيك المصريين في صحة رئيسهم.

نحن نتمنى طبعاً للرئيس مبارك الصحة الجيدة وطول العمر (كما نتمنى ذلك لأي انسان). لكن السؤال هنا : بدلاً من هذه الحملات الصحفية واتهام الصحف العالمية بالمؤامرة لماذا لم تلجأ الحكومة المصرية الى وسائل موضوعية للاعلان عن حالة الرئيس مبارك الصحية بطريقة مقنعة؟. الفرق بين ما حدث في مرض الرئيس الأميركي وما حدث في مرض الرئيس المصري هو ذاته الفرق بين النظام الديموقراطي وحكم الاستبداد.. في النظام الديموقراطي يعتبر رئيس الدولة شخصاً عادياً من الوارد جداً أن يصيبه المرض مثل بقية خلق الله فلا يعيبه ذلك ولا ينقص من قدره اطلاقاً.. أما رئيس الدولة في أنظمة الاستبداد، فلا يقدم الى الناس باعتباره انساناً عادياً ولكن باعتباره زعيماً ملهماً وقائداً فذاً لا مثيل لحكمته وشجاعته بل أسطورة نادراً ما تتكرر في تاريخ الوطن. من هنا فإن المرض بكل ما يستدعيه في الذهن من ألم وتوجع وضعف انساني لا يتفق مع صورة الرئيس الأسطورية التي تجعله فوق البشر العاديين.. مرض الرئيس في نظام ديموقراطي قد يثير القلق على مستقبل الرئيس وليس على مستقبل الوطن. اذا تقاعد الرئيس فإن النظام الديموقراطي يتيح للمواطنين اختيار من يخلفه بسهولة وبساطة. أما في نظام الاستبداد فإن مستقبل الوطن والمواطنين في يد الرئيس وحده وبالتالي فإن مرضه يشكل خطراً حقيقياً على تماسك الوطن وسلامته. لأن الرئيس الفرد اذا أبعده المرض عن الحكم فإن البلاد كلها تبدأ رحلة مع المجهول لا يعرف أحد مداها ولا نتيجتها. فرق آخر مهم، الرئيس الديموقراطي يحس دائماً بأنه مدين بمنصبه للشعب الذي اختاره عن طريق الانتخاب الحر وبالتالي من حق الذين أتوا به الى منصبه أن يعرفوا حالته الصحية ليتأكدوا من قدرته على أداء مهامه بكفاءة.. أما الرئيس في مصر فيتولى الحكم عن طريق استفتاءات وانتخابات صورية وهو يحافظ على السلطة بالقوة وبالتالي لا يحس بأنه مدين للشعب بمنصبه بل على العكس، كثيراً ما يؤكد الكتبة والمسؤولون المنافقون أن الرئيس هو صاحب الفضل الأكبر على المصريين لأنه يضحي براحته من أجلهم وبالتالي فإن المصريين مطالبون ببذل كل الجهد ليثبتوا أنهم جديرون برئيسهم العظيم. في ظل هذا الوضع المقلوب لا يحق للمصريين أن يعرفوا عن الرئيس إلا ما يريد هو أن يكشف عنه، وبالطريقة التي يراها سيادته ملائمة للشعب. يكفي أن يؤكد لنا الرئيس أنه بخير حتى نحمد الله ونسكت. ولا كلمة واحدة بعد ذلك. الإلحاح في السؤال عن صحة الرئيس يعتبره المسؤولون سلوكاً منفلتاً ينم عن وقاحة وقلة تربية وقد يكشف عن خيانة وعمالة لجهات أجنبية معادية.

منذ عامين، في ظروف مشابهة كتب الصحفي الكبير ابراهيم عيسى عدة مقالات تساءل فيها عن صحة الشائعات التي تزعم أن الرئيس مريض. تم اعتبار هذه المقالات جريمة في حق الوطن ومثل ابراهيم عيسى أمام المحكمة التي حكمت عليه بالحبس ولم ينقذه من هذا المصير إلا صدور العفو الرئاسي عنه.. كانت الرسالة واضحة : إياك أن تتحدث أكثر مما يجب عن مرض الرئيس لأن الرئيس قد يغضب وإذا غضب الرئيس عليك فإن مصيراً أسود ينتظرك. لن ينقذك من غضب الرئيس إلا عفو الرئيس، لأن إرادة الرئيس في مصر فوق القانون بل انها في الواقع هي القانون.

ان تعامل النظام مع ما نشرته الصحافة العالمية عن صحة الرئيس مبارك، يكشف عن أزمة حقيقية في مفهوم الحكم في مصر، اذ يثبت النظام مرة أخرى أنه لا يعتبر المصريين مواطنين بل رعايا، لم يحق لهم يوماً اختيار من يحكمهم بإرادتهم الحرة وبالتالي لا يحق لهم أبداً أن يعرفوا اذا كان الرئيس مريضاً ولا أن يعرفوا اذا كان ينوي الاستمرار في منصبه أم التقاعد ولا حتى ماذا سيحدث اذا ترك الرئيس منصبه لأي سبب. الشعب المصري في نظر نظام الاستبداد أقل من أن يختار وأقل من أن يسأل وأقل من أن يعرف.. هذا التشوه في مفهوم السلطة لا يرجع الى طبيعة الحاكم بقدر ما يعود الى طبيعة نظام الحكم. ان طريقة تولي الحكم تفرض على الحاكم رؤيته وسلوكه أثناء ممارسته للسلطة. عندما ينتزع المصريون حقهم الطبيعي في اختيار من يحكمهم. عندئذ فقط، سيتحول الحاكم من أسطورة لا تتكرر الى مجرد موظف عام في خدمة الشعب وسيكون من حق المصريين أن يعرفوا حالته الصحية بدقة ووضوح.. يومئذ سوف تنهض مصر ويبدأ المستقبل...

الديموقراطية هي الحل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2177799

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2177799 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40