الخميس 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

من القابلية للاستعمار‮.. ‬إلى القابلية للاستدعاش‮!‬

الخميس 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par محمد سليم قلالة

قراءة‮ “‬شروط النهضة‮” ‬للمفكر الجزائري‮ ‬مالك بن نبي‮ ‬رحمه الله،‮ ‬على ضوء ما‮ ‬يجري‮ ‬على الساحتين العربية والإسلامية تجعلنا نستعيد مفهوم القابلية للاستعمار والمعامل الاستعماري‮ ‬لتفكيك وفهم الحالة الإرهابية والداعشية التي‮ ‬أصبحت تحيط بنا من كل جانب،‮ ‬وتكاد تفتك بمجتمعاتنا فَتْكًا،‮ ‬قد‮ ‬يفوق ذلك الذي‮ ‬قام به الاستعمار عند احتلال بلادنا وتحطيمها والسيطرة عليها لعدة قرون من الزمن‮… ‬واعتماد منهج هذا الكتاب في‮ ‬تجاوز القابلية للاستعمار،‮ ‬والتكيف،‮ ‬وتوفير شروط النهضة،‮ ‬ستمكننا بلا شك من الانتقال من حالة الاستسلام إلى الظاهرة الإرهابية والظاهرة الداعشية إلى اعتبارها عوامل‮ “‬منبهة‮” ‬و“تحديات‮” ‬من شأنها أن تشكل لدينا القدرة على الانتصار على الإرهاب كما مكّننا‮ “‬المعامل الاستعماري‮” ‬من تحقيق الاستقلال،‮ ‬وإن كان ذلك على مستوى الأشياء والأشخاص قبل الأفكار والإنسان‮.‬

ينظر المفكر الجزائري‮ ‬مالك بن نبي‮ ‬إلى الظاهرة الاستعمارية من زاويتين،‮ ‬زاوية المستعمِر‮ (‬بكسر الميم‮) ‬وزاوية المستعمَر‮ (‬بفتح الميم‮)‬،‮ ‬ويتحدث في‮ ‬الفصل الأخير من كتابه شروط النهضة عن نقطتين مهمتين‮ “‬المعامل الاستعماري‮”‬coefficient‮ (‬ص145‮)‬،‮ ‬ومعامل‮ “‬القابلية للاستعمار‮” (‬ص152‮) ‬وعن‮ “‬مشكلة التكيف‮” (‬ص156‮). ‬وخلاصة حديثه في‮ ‬هذا الشأن أن القابلية للاستعمار إنما تنشأ في‮ ‬المرحلة التي‮ ‬يفقد فيه المجتمع وظيفته التاريخية،‮ ‬وهذه المرحلة مرتبطة بمستوى التطور الحضاري‮ ‬الذي‮ ‬تعرفه الأمة،‮ ‬وذلك له علاقة بموقعها في‮ ‬وقت محدد من المنحنى البياني‮ ‬الذي‮ ‬يشكل تاريخها من الانطلاق إلى الوصول إلى القمة إلى بداية الانحطاط إلى السقوط إلى بداية اليقظة فالنهضة فالانتقال إلى موقع القمة من جديد‮. ‬وقد تمكن الاستعمار التقليدي‮ ‬من استغلال قابليتنا لأن نكون مستعمَرين منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر،‮ ‬بل ومنذ نهاية عصر الموحدين‮ (‬1269‮) ‬عندما بدأ منحنى صعودنا نحو القمة في‮ ‬الانحدار‮. ‬ونتج عن استغلاله لقابليتنا للاستعمار ذلك الاحتلال المشين الذي‮ ‬عرفناه لمدة تختلف من بلد إلى آخر‮. ‬وقد زادت في‮ ‬بلادنا عن القرن وربع القرن‮. ‬وتمثل ذلك في‮ ‬كون الاستعمار باعتباره معاملا تمكَّن من استغلال الضعف الذي‮ ‬أصاب شبكة العلاقات الاجتماعية في‮ ‬بلادنا،‮ ‬وخاصة عدم قدرتها على تفعيل‮ “‬الأفكار والأشخاص والأشياء‮” ‬وبسط سيطرته عليها‮. ‬لقد تمكَّن مستعمر الأمس من السيطرة علينا،‮ ‬لأنه وجد مجتمعات مُتَخَلِّيةً‮ ‬عن وظيفتها التاريخية،‮ ‬بلا ديناميكية ولا فعالية،‮ ‬تعرف سلوكا بدائيا،‮ ‬تتحكم فيها الغرائز،‮ ‬تفتقد للتكيف الوظيفي،‮ ‬وتعيش حياة جماعية دون وعي‮ ‬بغايتها‮… ‬ولإحكام هذه السيطرة وتعميق القابلية للاستعمار سخر أدوات فتاكة تعمل لصالحه‮: “‬بطالة‮ ‬يحصل من ورائها‮ ‬يدا عاملة بثمن بخس‮”‬،‮ “‬انحطاطا في‮ ‬الأخلاق كي‮ ‬تشيع الرذيلة بيننا‮”‬،‮ “‬تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزابا‮” ‬من خلال‮ “‬السياسات الانتخابية‮” ‬حتى‮ ‬يحل بهم الفشل أدبيا كما حل بهم الفشل اجتماعيا،‮ ‬ليجعل مِنَّا في‮ ‬آخر المطاف‮ “‬أفرادا تغمرهم الأوساخ،‮ ‬ويظهر في‮ ‬تصرفاتهم الذوق القبيح حتى نكون قطيعا محتقرا،‮ ‬يسلم نفسه للأوساخ والمخازي،‮ ‬فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته‮” (‬ص153‮)‬،‮ ‬وهكذا تمكن الاستعمار من التصرف في‮ ‬طاقتنا الاجتماعية،‮ ‬لأنه‮ “‬درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة،‮ ‬وأدرك منها موطن الضعف،‮ ‬فسخَّرَنا لما‮ ‬يريد،‮ ‬كصواريخ موجهة‮ ‬يصيب بها من‮ ‬يشاء‮…” ‬ص‮ ‬‭.‬155

‭ ‬ولو لم‮ ‬يتمكن المجتمع الجزائري‮ ‬من إدراك هذه الحالة عن طريق‮ “‬جمعية العلماء‮” ‬ومن اكتساب الوعي‮ ‬بضرورة التخلص من خلالها بواسطة نخبة سياسية وطنية آمنت بالفعل الثوري‮ ‬كوسيلة‮ (‬الحركة الوطنية‮)‬،‮ ‬لما استطعنا أن نتخلص من القابلية للاستعمار ومن الاستعمار‮.. ‬إلا أن تَخلُّصنا لم‮ ‬يكن تامًّا فقد مسَّ‮ ‬الأشياء والأشخاص،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يصل إلى مستوى الأفكار والإنسان،‮ ‬وهو ما أصبح‮ ‬يُعرف بالاستعمار الجديد الذي‮ ‬ارتكز على القابلية الجديدة للاستعمار‮.‬

ولأننا بدأنا نتمكن من خلال الصحوة الدينية والوعي‮ ‬الوطني‮ ‬من التصدي‮ ‬لهذه القابلية للاستعمار الجديد من خلال إعادة إحياء الوظيفة التاريخية للمجتمع منذ سبعينيات القرن الماضي‮ ‬وإلى نهاية الثمانينيات،‮ ‬عاد مستعمر الأمس‮ ‬يبحث في‮ ‬مدى قابلية السيطرة علينا من خلال مختصِّيه وعلمائه وخبرائه،‮ ‬فاكتشف لدينا القابلية للإرهاب،‭ ‬ثم القابلية للاستدعاش‭ ‬أخيرا‮.. ‬وها نحن نعيش ذلك بكل التفاصيل‮.‬

القابلية للإرهاب اكتشفها من خلال تفكيك خطاب الصحوة الذي‮ ‬بدأنا نعرفه بعد الاستقلال في‮ ‬محاولة لاستعادة وظيفة الأفكار والإنسان لدينا‮. ‬لقد تضمن هذا الخطاب الذي‮ ‬عشنا مراحله بعمق،‮ ‬تلك العناصر التي‮ ‬تحمل تصورنا عن المستقبل المرغوب الذي‮ ‬نطمح إليه،‮ ‬حيث‮ ‬يستعيد الإنسان هويته وموقعه ودوره الحضاري،‮ ‬تلك المثاليات المتعلقة بالدولة الإسلامية وبالعدل العمري‮ ‬ومكافحة التغريب والولاء والمحبة في‮ ‬الله والكره في‮ ‬الله‮… ‬وغيرها من القيم التي‮ ‬لم نكن نرى‮ ‬غيرها بديلا لاستكمال تحررنا والقضاء نهائيا على العناصر المشكلة للقابلية للاستعمار‮.. ‬وتمكن هذا الآخر المتربص بنا،‮ ‬من الانطلاق من مكونات هذا الخطاب ليحَوِّلها عن‮ ‬غايتها تماما من خلال تغليفها بالعمل المسلح باسم رفع راية الجهاد،‮ ‬ثم تحويل كل ذلك إلى إرهاب‮… ‬وقد عشنا هذه الحقائق بكل تفاصيلها في‮ ‬حينها‮… ‬ولعلنا تمكَّنا في‮ ‬الجزائر،‮ ‬بحكم حصانتنا الناتجة عن ثورة تحرير كبرى أدركت حقائق الاستعمار وأساليبه وتعاملت معه ومع عملائه لعقود من الزمن،‮ ‬من هزيمة هذا المخطط بتنازلات من جميع الأطراف،‮ ‬وإن كان ذلك بعد ثمن باهظ دفعناه في‮ ‬الأرواح والمعدات‮…‬

وبرغم ذلك‮ ‬يبقى مستعمر الأمس‮ ‬يعمل للبحث فيما نملك من قابلية للاستعمار أو للإرهاب أو للاستدعاش كما‮ ‬يحدث اليوم‮. ‬بنفس المنهجية،‮ ‬يقرأ حقيقة الشبكة الاجتماعية التي‮ ‬تحكمنا ويسعى للنفاذ من خلالها،‮ ‬يقرأ قدرتنا على تفعيل عالم الأشخاص والأشياء والأفكار وإعادة الاعتبار للإنسان من عدمها ويسعى للنفاذ منها‮.‬

وعلينا أن نواجه ذلك ونتحدّاه ونمنع أن تتحقق الغاية السالبة منه،‮ ‬وذلك ليس بالأمر الهين‮.‬

لقد واجه العلماء وواجهت النخبة الوطنية مخطط القابلية للاستعمار وتمكنت من رسم المخطط المضاد لذلك ومن تحقيق شروط مهمة من شروط الاستقلال والنهضة بالرغم من أن الوسائل والإمكانات لم تكن متكافئة على كافة الأصعدة،‮ ‬واليوم هناك مهمة أكثر تعقيدا تواجه العلماء والنخبة في‮ ‬ذات الوقت بالنظر إلى دخول التكنولوجية الحديثة كوسيلة،‮ ‬لدينا الكثير من الصعوبات للتحكم فيها،‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬يتحكم الآخرون في‮ ‬مصدرها‮. ‬شبكة الإنترنت ووسائل صناعة الرأي‮ ‬العام والوسائط المتعددة المختلفة أصبحت تصنع ما تشاء من التوجهات والأفكار،‮ ‬وتحرف ما تريد من المواقع والأحداث وتشوهها بكيفية لا تبدو كذلك إطلاقا‮...‬

لقد شوشت الإدارة الاستعمارية على كتاب المفكر الجزائري‮ ‬مالك بن نبي‮ “‬شروط النهضة‮” ‬بأن ضغطت على أزرار في‮ ‬تلك الفترة لتشويهه،‮ ‬كما‮ ‬يقول بنفسه في‮ ‬كتابه لتعتبره‮ “‬خطوة خاطئة‮” ‬أو أنه‮ ‬يشكل خطرا كبيرا،‮ ‬وأنه من نشر جريدة‮ “‬لوموند‮”. ‬وكان لذلك تأثير سلبي‮ ‬على مردوده لا شك فيه،‮ ‬ولكن القوى الراعية للقابلية للإرهاب والإستدعاش لا تسطيع أن تضغط على أزرار محدودة فقط للقيام بهذا اليوم،‮ ‬بل هي‮ ‬مالكة كافة الأزرار،‮ ‬وبإمكانها أن تدفعنا إلى الضغط عليها،‮ ‬ضد أنفسنا،‮ ‬ونحن لا ندري،‮ ‬وذلك هو التحدي‮ ‬الأكبر الذي‮ ‬نعيشه اليوم لكي‮ ‬نواصل مواجهة الفصل الثالث من القابلية للاستعمار‮: ‬القابلية للاستدعاش‮.‬



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2178442

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع سليم قلالة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178442 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40