الجمعة 12 أيلول (سبتمبر) 2014

إشكاليات خطاب ما بعد غزة

الجمعة 12 أيلول (سبتمبر) 2014 par علي بدوان

بالرغم من الصمود الاستثنائي لعموم المواطنين الفلسطينيين في محنة العدوان «الإسرائيلي» الأخير على قطاع غزة. وبالرغم من الوحدة الميدانية التي تَجلّت على الأرض بين جميع القوى والفصائل ومكونات الحالة الفدائية العسكرية، وكذلك التفاوض الفلسطيني غير المباشر مع الطرف الإسرائيلي عبر وفدٍ فلسطيني موحد، إلا أن العديد من التباينات أطلت مُجدداً على الساحة الفلسطينية في تقييم مرحلة ما بعد غزة.

إلى هنا، والأمر عادي جداً في الحالة الفلسطينية، فالتباينات في التقييم، وحتى المُشادات، وأجواء التسخين وحديّة النقاشات، ووصولها لدرجة التشابك حتى بالأيدي في مرات، وإن كانت نادرة، أمرٌ معهود في الساحة الفلسطينية، بل بات الأمر تاريخياً جزءاً أساسياً من فولكلور العمل السياسي الفلسطيني.

إلا أن المؤشرات التالية لما بعد غزة لا تُبشّر بالخير كثيراً، لجهة طي ملف الانقسام الداخلي. فقد كَثُرت في الأيام الأخيرة مفردات الخطاب التوتيري العالي، بين الأطراف الفلسطينية المختلفة، وكَثُرت مع تلك المفردات لغة التصعيد الإعلامي غير المُبرر، وهي لغة كان يفترض بها أن تتراجع أمام الاستحقاقات الفلسطينية المُترتبة على المرحلة التالية من محنة العدوان الأخير على قطاع غزة.

المُشكلة هنا، لا تكمن فقط في اعتقاد البعض بأنه بات سيد الموقف في تقرير مسارات المرحلة التالية بحكم علاقاته وشبكة اتصالاته الدولية وسطوته، بل تَكمُن أيضاً في تراجع الخطاب الوحدوي المُتفائل الذي ساد بعد توقيع اتفاق المصالحة في مخيم الشاطئ في قطاع غزة في يونيو الماضي 2014، حيث اعتبر البعض من المتشائمين في حينها بأن الاتفاق إياه لم يكن سوى تنفيس داخلي لأزمات واحتقانات فتحاوية وحمساوية.

لقد اكتوى الفلسطينيون تاريخياً بمصائب الانقسامات الداخلية في صفوفهم، وذلك عبر المحطات المختلفة التي عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة (قبل النكبة) والمعاصرة (بعد النكبة). وكان انقسام منتصف العام 1983 المحطة القاسية في تلك الانقسامات، حين جرجر وراءه عمليات الاقتتال الدموي فوق الأرض اللبنانية في سهل البقاع وبعلبك وطرابلس وبيروت، والتي دفع ثمنها الفلسطينيون الأثمان الباهظة من كيسهم الخاص. والآن يُعاد تكرار هذا الفصل المرير مرة ثانية عبر الانقسام الذي مازال سائداً في البيت الفلسطيني منذ سنوات طويلة، بالرغم من الإعلان عن تشكيل حكومة توافق وطني، لكنها مازالت حكومة مشلولة عملياً، وتعاني من غياب الإرادة الجامعة لإعادة توحيد الجزء المتبقي من أرض فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة) وتوحيد المؤسسات بين الضفة الغربية والقطاع بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية (مؤسسات الأمن الوطني).

إن المُشكلة الكبرى في مسارات العمل السياسي والوطني الفلسطيني، وفي مسارات الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، أنَّ خبرات التجارب العملية على الأرض، والتي مَرَ بها الفلسطينيون، كانت ومازالت للأسف، تذهب سدى غالب الأحيان، وقلما تَعَلَمَ الفلسطينيون من تجاربهم التي اكتووا بها وبتداعياتها. فكانوا في كل مرة يعاودون دفع الأثمان وكأنها قَدَر مكتوب عليهم. وهنا لا ننسى أن المُعادلات والمحاور الإقليمية المُتبدلة والمتجددة وتأرجحاتها من حين لآخر، كانت ومازالت ظالمة وقاسية بحق الفلسطينيين، وطالما جعلت منهم ألعوبة في صراعاتها المُستديمة في المنطقة، ولنا أكثر من مثال على ذلك في هذا الميدان.

إن طي ملف الانقسام الفلسطيني الداخلي، ينتظر إرادة فلسطينية، حازمة وحاسمة على المستوى السياسي بالنسبة للقضايا المطروحة بما فيها مسألة المفاوضات مع الطرف «الإسرائيلي» والتي وصلت الى طريقها المسدود منذ فترة طويلة. كما ينتظر مناخاً عربياً رسمياً مُحترماً يقف الى جانب مساعدة كل الأطراف الفلسطينية من أجل تجاوز الخلافات والتباينات الفلسطينية، ودعم وإسناد حكومة التوافق الفلسطينية التي تم تشكيلها ولم تقلع حتى الآن في عملها، دعمها على كل المستويات بما في ذلك على مستوى حث المجتمع الدولي من أجل التعامل معها باعتبارها حكومة وحدة وطنية فلسطينية تُعبّر عن كل الشعب الفلسطيني في أراضي العام 1967، وليست حكومة خاصة لطرف فلسطيني دون غيره.

إن على القيادة الرسمية الفلسطينية، وعلى جميع الأطراف الفاعلة في الساحة الفلسطينية، أن تدرك جيدا أن الموقف الفلسطيني سيبقى ضعيفاً في ظل الانقسام الحاصل، فيما كانت ومازالت سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» تتطلع دائماً الى بقاء الانقسام حاصلاً في صفوف الشعب الفلسطيني حتى يبقى الموقف الفلسطيني ضعيفا، بما يُمكّن «إسرائيل» من تنفيذ سياساتها بكل أريحية تامة.

إن أجواء المصالحة الفلسطينية، ودعوات إعادة بناء العقد التاريخي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ودخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي لعضويتها وفق ما توصلت اليه الحوارات الفلسطينية التي دامت لفترات طويلة، تتطلب الكف عن إثارة بعض الإشكاليات التي لا ضرورة لها، كما تتطلب نزول الأطراف الفلسطينية عند مبدأ التشاركية الوطنية في صناعة القرار وصياغته وقيادة دفة العمل السياسي الفلسطيني، والكف عن النظر للوحدة الوطنية باعتبارها لعبة «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»، أو لعبة «قولوا ماتشاؤون.. وأنا أفعل ما أشاء».

إن المُشكلة الكبرى في الساحة الفلسطينية، أن الخلاف والتباين السياسي حول القبول بمبدأ مسألة «التسوية السياسية» مع الطرف «الإسرائيلي» من عدمها، بات خلافاً مُتأصلاً ومستفحلاً بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ومنابتها الأيديولوجية الفكرية حت داخل مكونات منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها. وهذا الخلاف والتباين باتَ يَقُضُ مضاجع العمل الوطني الفلسطيني وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وقد ثَبُتَ بالواقع الملموس أن حل تعقيدات الملف السياسي وخلافاته في الساحة الفلسطينية، يتطلب تقديم واشتقاق أفكار جديدة، أفكار حاذقة ولمّاعة، واجتراح حلول براغماتية، تقود نحو توفير المُقاربات المُمكنة بين البرنامجين السياسيين المطروحين في ساحة العمل الفلسطيني: برنامج خط التسوية والمفاوضات، وبرنامج الخط الآخر المناهض لعملية التسوية المطروحة بصيغها المعلومة منذ مؤتمر مدريد نهاية العام 1991.

قصارى القول، إن خطاب التوتير الداخلي في الساحة الفلسطينية ما بعد غزة، خطاب مرفوض، فمرحلة ما بعد غزة، ومآسي الشعب الفلسطيني ونكباته التي خَلَّفها العدوان الأخير، تفترض بالجميع الكف عن (النبش) في (الخلافات والتباينات)، والارتقاء بمستوى الخطاب السياسي الفلسطيني الوحدوي والتوحيدي، والوصول الى مستوى احترام تلك التضحيات التي قدمها عموم أبناء فلسطين في القطاع، فلا شفاعة ولا رحمة ولا احترام من الشعب الفلسطيني لكل من لا يحترم تضحياته وإرادته الوطنية بعد هذا الصمود الكبير في قطاع غزة، وهو الصمود الذي سطره عامة المواطنين، وأذهلوا به العالم بأسره.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2177750

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي بدوان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2177750 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40