الأربعاء 20 آب (أغسطس) 2014

غزة تقاوم ولا تموت

الأربعاء 20 آب (أغسطس) 2014 par فيصل جلول

كيف يمكن لشعب تعداده مليون ونصف المليون نسمة ومحاصر من كل الجهات في بقعة صغيرة مساحتها أقل من 400 كلم مربع أن يقاتل بنجاح أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط وأن ينتصر بأسلحة تعود في معظمها إلى الحرب العالمية الثانية؟ الجواب الذي يخطر على البال هو الإرادة والشعور بالوجود المهدد والتمسك بالأرض وأشياء أخرى من الطبيعة نفسها تندرج كلها تحت عنوان الامتناع عن التسليم للمحتل بجدوى قوته والخضوع لإرادته وسيطرته على القسم الأكبر من فلسطين، ومن ثم الإصرار على المقاومة من أول أرض فلسطينية محررة، هذا العنوان المركب أي الامتناع والمقاومة الذي تعودنا على اختصاره باستخدام الرفض والإصرار على السلاح هو الوجه الخارجي لمضمون أعمق وأهم يمكن اختصاره بتحول حياة الشعب الفلسطيني إلى نمط حياة مقاوم على كل صعيد، فالمرأة التي تعد الصهاينة على شاشات التلفزيون بأن تلد لهم ثواراً جدداً بدلاً من الشهداء تؤكد على ديمغرافيا المقاومة الفلسطينية والرجل الذي تحطم منزله ووقف على انقاضه مخاطباً الصهاينة بالقول: “هنا سأقيم خيمة . . لن أرحل” يؤكد على نظرة عمرانية تحتل المقاومة فيها أولوية مطلقة . والطبيب الذي يعالج جرحى القصف الهمجي الصهيوني بلا مورفين أو مهدئات وبوسائل ما قبل الطب الحديث، فإنه يعطي الأولوية في المجال الطبي للمقاومة، والمقاتل الذي أقسم على الاستشهاد وسط أولاده الصغار، أو ذلك الذي تزوج للتو وقضى على الجبهة فإنه يؤكد لمن يرغب أن أولوية المقاومة بالنسبة إليه تتقدم على الأسرة والحياة العائلية المرسومة بأحلام وردية تنتمي إلى شعب آخر وظروف أخرى بكلام آخر ما يمارسه شعب غزة والشعب الفلسطيني عموماً هو نمط حياة مقاومة على كل صعيد يفسر وحده القتال الناجح والانتصار، لكن هل يتصل الأمر بالشعب الفلسطيني وحده؟ أو بالشعوب المحتلة أراضيها حصراً؟ أو الشعوب المضطهدة والمقموعة ؟ أم أن الأمر يتصل بحياتنا اليومية كلنا بغض النظر عن أوضاعنا السياسية والاقتصادية؟ الجواب عن هذا السؤال ليس بديهياً كما يبدو للوهلة الأولى وبالتالي ليس نمط الحياة المقاوم حكراً على أهل غزة وإن كانوا صناع انفاق ومتاهات تحت الأرض مثيرة لاضطراب وضعف حيلة قادة تل أبيب . إنه أي نمط الحياة المقاوم نهج حياتنا اليومية بل إنه الحياة نفسها وما يضاده هو الموت . وهذا ليس قولاً خطابياً للتباهي ورفع المعنويات بل جوهر ما استخلصه العلماء .
يلاحظ رينيه ديكارت أن الإنسان يستند في حياته اليومية إلى الأجسام التي تقاوم . فأنت تضع معصمك على طاولة خشبية تقاوم ضغط اليد والجسم ولا تأمن الاستناد إلى طاولة معرضة للانكسار والسقوط . لذا تبادر أولاً إلى قياس درجة مقاومة الطاولة قبل أن تستند إليها إن كنت تشك في صلابتها . وأنت تختار السير على جسر يقاوم الضغوط على معابر الأنهار، وترتدي في الشتاء ملابس تقاوم البرد وتفضل بعض الأمهات إرضاع مواليدهن من الثديين لزيادة مقاومتهم الطبيعية ومناعتهم الشخصية ويساعد الأبناء الأهل على مقاومة مصاعب الشيخوخة . ويعيش الناس في بيوت تقاوم المطر والحر . . . الخ .
ويلاحظ الأشخاص الذين يستشيرون الأطباء أنهم ينصحونهم بأدوية تقوي مناعة الجسم ضد الأمراض المختلفة، فالجسم السليم هو الجسم المقاوم والجسم الضعيف يتعرض للأمراض وقد لا يقوى على مكافحتها، فيسقط تحت وطأتها . ولا بد من الإشارة إلى أن الاختصاصيين قد أطلقوا صفات قاتلة على أمراض معينة تحطم مقاومة الجسم وتنتصر على أصاحبها وتخطط الدول المستقرة لتقوية مناعة أطفالها ضد الأمراض المعدية فتجعلهم أكثر مقاومة من نظرائهم الذين لا تتاح لهم الفرصة لتناول الجرعات الضرورية لمقاومة الأمراض الفتاكة . ويطلب قائد الجيوش والأجهزة الأمنية من جنودهم مقاومة الشائعات التي يسربها العدو وتدعو الدول القوية مواطنيها لمقاومة المخططات الخارجية . . .الخ .
ولا يختلف الحال في بيئة الحيوان أيضاً حيث يلاحظ أن الكائنات القطبية تتكيف مع الطقس البارد عبر تكوين طبقة شحمية كثيفة تحت الجلد وصوفاً سميكاً يقاوم المناخ الجليدي . وتقاوم الأسماك في البحار مفترسيها بأشواكها وتختبئ الطيور الضعيفة في أمكنة مقاومة لحركة الكواسر . وتحتفظ الثيران بقرنين مقاومين لاعتداء الوحوش القاتلة . . الخ .
وفي عالم النبات يلاحظ أن الطبيعة الطاردة للحياة في الصحاري القاحلة والتي تنشر الموت فوق كثبان الرمال لا تفلح بالقضاء على بعض النباتات البرية التي تقاوم الحرارة العالية وتنجح نباتات معينة بالعيش في بيئة بحرية طاردة للحياة النباتية .
يفصح ما تقدم عن أن مختلف أوجه الحياة لا تتم بلا مقاومة، بل المقاومة شرط قاطع لكل حياة، والاستسلام مدخل حتمي للموت . ان اعتماد هذه القاعدة البديهية بطريقة واعية أو عفوية لا فرق هو الذي يقيم حداً على الصعيد الشخصي بين الأفراد الذين يمارسون حياة سليمة وفخورة وأولئك الذين يقهرم اليأس وتنتصر عليهم الصعوبات ويستدرجهم إلى الهلاك خيار الانتحار . وهذه القاعدة هي التي تقيم الحد بين الشعوب التي ترفض الخضوع وتتمسك بحريتها ووجودها وتكافح من أجل صيانة كرامتها والشعوب التي يوهمها المحتل بمحاسن الخضوع والاستسلام فتموت ويختفي أثرها .
وهذه القاعدة هي التي تزيد الحضارات القوية قوة، واهمالها يزيد الحضارات الضعيفة ضعفاً، ولعل التاريخ يشهد على حضارات كثير اندثرت جراء اهمالها لثنائية الامتناع والمقاومة ولعل ما نشهده هذه الأيام في بلاد الرافدين هو الفصل الأخير في نهاية الحضارتين الكلدانية والأشورية فضلاً عن أقليات افتقرت إلى حيلة المقاومة .
لقد أبدع الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في رسم هذه المعادلة في شعره الشهير حين قال: ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر وكأنه يريد القول من لا يسعى للمقاومة من أعلى الجبال يندثر بين الحفر، نعم الطبيعة لم تنعم على غزة بالجبال العالية لكن الشعب الفلسطيني المقاوم صنع جبالا شاهقة في رؤوس أبنائه فكان وسيكون الانتصار حليفه المؤكد .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165275

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165275 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010