السبت 24 تموز (يوليو) 2010

عن العمالة والعملاء : محاولة في التفسير

السبت 24 تموز (يوليو) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

يتكرر في لبنان، اليوم، ما حصل في فلسطين والعراق أمس (= واليوم) وما حصل في المغرب والجزائر أول أمس : التكاثر الطفيلي للعملاء والمتعاونين مع العدو الخارجي والاحتلال الأجنبي. الظاهرة ليست عربية حصراً، إنها كونية بامتياز وشهدتها ـ على تفاوت ـ بلدان العالم كافة، وخاصة في حقبة الاحتلال ومعارك التحرر الوطني. كانت فرنسا وكوريا وفييتنام أشهر ساحاتها في الماضي القريب، مثلما أصبحت أنغولا ونيكاراغوا وأفغانستان أشهرها في العقود الأخيرة.

كيف تقرأ الظاهرة؟ ومن أية زاوية تستقيم القراءة، من زاوية العامل الخارجي أم من زاوية العوامل الداخلية؟

إذا أمكن أن يقال إن العمالة ثمرة نجاح العدو في استدراج قسم من السكان الخاضعين لسلطانه العسكري إلى تقديم السخرة له، فإن ذلك النجاح يفترض موضوعاً قابلاً للاستدراج، أو لديه القابلية للاستدراج، وإلا لماذا لا يكون السكان جميعاً عملاء للاحتلال، إذا كانت العمالة مجرد ثمرة لفعل القوة الخارجي، ولذكاء العدو الأجنبي؟ من البيّن، إذن، ان المدخل الأمثل إلى مقاربة الظاهرة وفهمها هو ـ على الحقيقة ـ الداخل الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي في حضنه تنشأ ومنه تتغذى.

ظاهرة نفسية؟

هل العملاء أشخاص مصابون بالانحراف السيكولوجي مما يدفعهم إلى إتيان أفعال غير سوية وغير طبيعية بمعيار القيم العامة الجماعية؟ هل يجدون في ممارسة تلك الأدوار تعويضاً عن نقص يستبد بهم الشعور به؟ هل يمارسون من طريقها انتقاما من الجماعة (= الوطن) التي يحمّلونها مسؤولية دونيتهم التي يشعرون بها؟

قد يكون الأمر كذلك، أو قد يكون شيء من ذلك يفسر الظاهرة. لكنه ـ في أفضل أحوال افتراضه ـ يفسرها جزئياً، فالذين «في قلوبهم مرض» كُثر في المجتمعات البشرية، لكنهم ليسوا جميعاً عملاء، ولا تذهب بهم أحقادهم والضغائن إلى موالاة العدو والإساءة إلى حرمة الوطن والأهل. ثم لماذا نقطع بأن من يأتي فِعل العمالة مريض بالضرورة؟ هل «الأسوياء» نفسياً وطنيون حكماً، أو على الأقل : أليس في جملتهم مَن يمكن ان يكون عميلاً أو لديه القابلية ـ الواعية والإرادية ـ لكي يكون كذلك؟

لا مفر من وضع التحليل السيكولوجي للظاهرة في نطاق حدوده الإجرائية المتواضعة والبحث عن أدوات وفرضيات أخرى.

ظاهرة اجتماعية ـ اقتصادية؟

ربما كان التفسير الاجتماعي ـ الاقتصادي للظاهرة مغرياً لكثيرين. وقد يكون الباعث عليه ملاحظة الصلة بين العميل والجهة التي توظفه : المال. وربما أوحت تلك الصلة بالاعتقاد أن أوضاع الفقر والتهميش الاجتماعي والرغبة في الترقي الاجتماعي دوافع تدفع بعض الناس إلى سلوك درب التعاون مع الأجنبي وتقديم السخرة الأمنية له، مقابل سد حاجة أو تحصيل منفعة. ومع ان بعض ذلك ليس مستبعداً، فهو لا يفسر الظاهرة كلاً إن كان له أن يفسرها جزءاً. وبيان ذلك أن الفقر والتهميش مما يمكن أن يكون في جملة العوامل التحتية التي تدفع الناس إلى خيار الالتزام الوطني والاجتماعي والثوري، ناهيك بأن الفقراء كُثر، بل هم الأكثر في المجتمعات، والعملاء قليلون جداً بحساب أعداد السكان. وإلى ذلك فإن التجارب وسوابق تطلعنا على حقيقة أن الكثير ممن ركبوا مركب العمالة والتعاون مع العدو كانوا في عداد ميسوري الحال، بل أكثرهم كان من هذه البيئات الاجتماعية التي لا تضغط على حياتها مطالب العيش، من دون ان يعني هذا أي نوع من التلازم المعاكس بين العنف والعمالة.

ولا مِرية في أن الأجنبي يطلب العملاء من الطبقات والمراتب الاجتماعية كافة : من سائق سيارة الأجرة وبواب العمارة وموظف مصلحة الهاتف حتى رجل الأعمال وضابط الاستخبارات ومدير البنك، هم جميعاً هدف يسعى إليه، وأسعارهم تتفاوت تبعاً لنوع الخدمة التي يُسدونها ومستواها. وهو ـ إلى ذلك ـ يعرف كيف يستثمر في حاجة كل واحد منهم: في حاجة الفقير منهم إلى سد الأوَد، وحاجة الفني إلى المزيد.. الخ. إنه ـ باختصار ـ لا يقف عند حدود التقدير الافتراضي لقابلية الفقر والتهميش لتوليد جمهور للعمالة بالقوة تكفي الصلة به وتجنيده ليصبح عميلاً بالفعل.

لا مناص من فرضيات أخرى، إذن، غير الفقر والحرمان.

نظام القيم والسياسة

قد لا نفتعل تفسيراً تعسفياً إن نحن وضعنا ظاهرة العمالة والعملاء في نطاق الظواهر الاجتماعية التي تقبل تفسيراً قيمياً - أو أخلاقياً - وسياسياً مع وعي الفارق بين الذاتي والموضوعي فيه. على أن هذا التفسير يقتضينا الأخذ به تصحيح نظرتنا إلى الأخلاق الاجتماعية والقيم وإلى دونيتها في سُلّم مراتب العوامل الاجتماعية على نحو ما هو سائد في الوعي، والتشديد على مركزيتها في تكوين الأفراد والجماعات والعلاقات والمعايير والأذواق في المجتمعات الإنسانية. ليس تفسير ظاهرة بالأخلاق والقيم تفسيراً مثالياً، إلا في وعي مادي اقتصادوي (وهو وعي ميكانيكي لا جدلي) لا يقيم اعتباراً للعوامل المجتمعية الأخرى (= الثقافة، التربية، المخيال الجماعي، الدين...). وهو، في المحصلة، وعي «يعاني من قصور حاد في الإدراك الفلسفي والسوسيولوجي لظواهر الاجتماع الإنساني.

على أن الصلة بين القيمي - الأخلاقي وبين السياسي - العقائدي ليست منقطعة ولا متباعدة، بل متداخلة ومتبادلة الأثر. وبيان ذلك أن الوعي السياسي واعتقاد الناس في أفكار أو اعتناقهم لها، إنما هو حصيلة تربية اجتماعية نشأوا عليها وشبّوا، وتمثل لهم ولإدراكاتهم ما يشبه المحددات والموجهات. أما من وجه ثان للعلاقة، في ما يتشبع به الناس من عقائد وأفكار سياسية فيتحول مع الزمن إلى قيم وأخلاقيات تحكم سلوكهم الاجتماعي وتؤسس لهم معايير بمقتضاها يفكرون ويتصرفون. وهذا ما يفسر الطبيعة المركبة لكثير من الظواهر الاجتماعية ومنها الظاهرة التي نحن أمامها.

العمالة، في مرآة هذه الفرضية، حالة من حالات الخروج السلبي على القيم الجماعية المشتركة (قيم الوطنية والجماعة والشرف والكرامة...). إنها ليست تمرد فرد أو أفراد على جماعة، وإنما هو انتهاك لمقدسات اجتماعية ليس في وسع جماعة اجتماعية او وطنية العيش من دونها. الوطن، هنا، كالحرية والديموقراطية: من تلك المقدسات التي لا تقبل الانتهاك. العدوان على حرية الفرد والحريات العامة ـ يعني ـ في المجتمعات التي يقوم نظامها الاجتماعي والسياسي عليها ـ العدوان على الأمة والدولة، وكذلك شأن الديموقراطية في الديموقراطيات الحديثة. وليس يختلف الأمر في حال العمالة بما هي تآمر على الجماعة والوطن وعدوان عليهما.

يعاني العملاء، والمتعاونون مع الاحتلال، من نقص حاد في القيم : الاجتماعية والوطنية. لا يمثل الوطن - بما هو كيان وأهل وكرامة ومصالح عمومية - قيمة في وجداناتهم، ولا تحتل الأخلاق الجماعية موقعاً في أفعالهم. معاييرهم مختلفة، وقيمهم متباينة، وأغراضهم الخاصة أولى من المصلحة العامة. لا عجب إن ارتضى أي منهم أن يبيع الأهل والوطن للعدو مقابل تحصيل منفعة رخيصة. قد يكون العميل الصغير مدفوعاً من جهة سياسية داخلية محترفة للعمالة الأكبر، وقد يمارس عمالته بوصفها واجباً سياسياً. لكنه لا يغير بذلك حقيقة أنه عميل وإن حَسِبَ الأمر غير ذلك. وإذا كان العميل، عموماً، يدرك أن فعله منبوذ ومحتقر من الناس وممنوع قانوناً فيمارسه متستراً خشية النبذ والعقاب، فإن أخطر أنواع العمالة ما يقع الجهر به من دون خشية تبعة أو احتساب. ولقد يكون الجهر مباشراً في حالات، وإن تكن قليلة ومحدودة، كما قد يكون من طريق غير مباشر مثل مناصبة حركات التحرر والمقاومة العداء او الاعتراض ومعالنتها الرفض بدعاوى مختلفة. وخطورة مثل هذا الجهر لا تخفى على أحد، ومن مفاعيلها أنها تُشيع في الناس مشاعر الاستهانة بقيم الوطنية ومَن يحملونها في المجتمع، بل قد تذهب إلى حد إشاعة ثقافة سياسية معادية للوطن والوطنية.

على أنه إن أمكننا رد ظاهرة العمالة إلى هذا العامل الذاتي (= النقص الحاد في القيم)، والذي له ما يفسره موضوعياً (مثل التنشئة الأسرية والتربية المدرسية والسياسية والإعلامية وأزمة القيم والمعايير في المجتمع...)، فإن تفسير فُشوّها واستشرائها في بيئات عديدة من المجتمع لا يمكن ان يكون إلا تفسيراً سياسياً. ويستفاد من هذا ان مثل ذلك الفشو لا يحصل إلا في بيئة سياسية تتيح له ـ لسبب أو لآخر ـ ان يفشو ويشيع، كأن يجري التساهل مع الظاهرة فلا تُردع بالعقاب القانوني الذي يناسبها ويحمي الوطن من غائلة وجودها ويقطع دابر الإقدام عليها من آخرين، أو كتمتيع المتعاونين بحق العفو الرئاسي او التشريعي، او تمتيعهم بالتخفيف في الأحكام القضائية، او كالتهاون في ملاحقتهم الأمنية وفي تطوير أدوات الرصد والتعقب وجمع المعلومات عنهم، او كتغطيتهم سياسياً بهذا المبرر أو ذاك... الخ. إنها جميعها أسباب تكفي لتوفير البيئة السياسية الحاضنة لهذه الظاهرة المخيفة في مجتمعاتنا المعاصرة.

وما أغنانا عن القول إن الردع الأمني والقانوني للعملاء ضروري وشرعي لأنه جزء من الحق العام الذي على الدولة ان تنهض به. لكنه ليس يكفي : تماماً كما لا تكفي المعالجة الأمنية لإنهاء ظاهرة «الإرهاب»، وإنما تحتاج المجتمعات المصابة بهذا الداء الفتّاك إلى مشروع سياسي وثقافي يقوم على التماسك الوطني الذي في بيئته وحدها تنتشر القيم الوطنية ويتشبّع بها الناس.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 36 / 2181121

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2181121 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40