الاثنين 14 تموز (يوليو) 2014

غزة: الصراع على وقف إطلاق النار

الاثنين 14 تموز (يوليو) 2014 par د. مصطفى اللبّاد

يجود الشعب الفلسطيني بالدم مثلما فعل طيلة السنوات الممتدة من ثورة القسام 1936 وحتى اليوم، دفاعاً عن وجوده وطلباً لحريته، ودوماً في ظل عدم تكافؤ واضح في ميزان القوى مع عدوه. هكذا يستمر الشعب الفلسطيني في التضحية بالدم في قطاع غزة بهذه الجولة الصراعية، التي يميزها عن غيرها أن الأطراف المتصارعة فيها تتقاتل منذ البداية على وقف إطلاق النار وشروطه وليس على تحرير أراض فلسطينية خارج القطاع، أو حتى دفع الأطراف الدولية لتبني تسوية شاملة للصراع العربي ـ الإسرائيلي في حدود 4 حزيران 1967، فهذه أمور لا يسمح بها توازن القوى الراهن مع إسرائيل. وبالرغم من الاستقرار المؤسف لتوازن القوى العربي - الإسرائيلي المذكور، يبدو التوازن الإقليمي في حالة نسبية من السيولة، بحيث تلخص الجولة الصراعية الراهنة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وقطاع غزة المشهد الإقليمي وتفاصيله الجديدة، التي سيمكن قراءتها بدقة وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار المرتقب بين إسرائيل و«حماس».

الحسابات الإسرائيلية

تعي إسرائيل أنها لن تستطيع الانتصار في غزة مهما قتلت من الفلسطينيين ودمرت بيوتهم، لأن هدف إسرائيل بإنهاء المقاومة المسلحة لن يتحقق، وهي تجربة اختبرتها دولة الاحتلال في غزة مراراً وتكراراً من قبل. لم تعد إسرائيل تقاتل جيوشاً نظامية من العالم الثالث، فتنتصر عليها بأحدث تقنيات السلاح الأميركي، بل ميليشيات غير نظامية مسلحة تسليحاً ثقيلاً من الناحية الأيديولوجية وصاروخياً من الناحية العسكرية. هكذا كانت خبرة إسرائيل في حرب لبنان 2006، وفي عدواناتـها المتكررة على قطاع غزة 2008/2009 ومن ثم عام 2012 والآن عام 2014. وبرغم وعي إسرائيل بعدم قدرتها على إنهاء المقاومة المسلحة، يبقى لها هدفان تبغي تحصيلهما من العدوان على غزة: أولاً تدمير القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، وثانياً تخريب التقارب بين حركتي «فتح» و«حـماس». تعرف دولة الاحتلال الإسرائيلي أن الصواريخ الفلسطينية لا تملك قدرة تغيير الواقع على الأرض، ولكنها تعلم نجاعتها في التأثير النفسي العميق. أما تخريب التقارب بين الفصيلين الفلسطـينيين، فيـعني ضمان أن تبقى «حماس» معزولة جغرافياً في قطاع غزة وبالتالي سياسياً، فيما ستضطر «فتح» وقتها إلى التعاون أكثر مع الجانب الإسرائيلي. كما أن العزلة الجغرافية والسياسية لغزة والضـفة الغربية ستؤمن لإسرائيل كل الأوراق اللازمـة لفرض تصوراتها على الفلسطينيين؛ إذا اضطرت تل أبيب تحت الضغط الأميركي إلى الذهاب لجولة جديدة من المفاوضات معهم. لا يبدو هدف تحييد الصواريخ الفلسطينية ممكناً من الناحية العملية، لأن ذلك سيتطلب عمليات برية وغزواً للقطاع، وهو ما سيعرّض قوات الاحتلال إلى خسائر مباشرة. وإن كانت الصواريخ الفلسطينية التي تسقـط على المدن الإسرائيلية متدنية القدرة على إلحاق خسـائر بشـرية كبيرة، إلا أن توغل القوات الإسرائيلية في القطاع سيعطي الفرصـة للفصـائل الفلسطـينية لفعل ذلك. ويضاف إلى ذلك الفشل الاستخباري الإسرائيلي المريع، على الرغم من هندسة الخراب الذي تقترفه الطائرات الحربـية أميركية الصنع بحق قطاع غزة، لأن تل أبيب لا تعـلم أماكن وجود الصواريخ ولا منصات إطلاقها، ما سيـجعل الغزو البري ـ إن حدث ـ طويلاً؛ وبالتالي مكلفاً بشرياً.

الحسابات الفلسطينية

مثل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فرصة لحركة «حماس» لإظهار قدراتها القتالية والصاروخية، بغرض تحسين شروط الهدنـة المرتقبـة وإعادة موضعة نفسها في السياق الإقليمي الجديد. يمثل الحصار المفروض على غزة ضغطاً قوياً على الحركة، لأنه يزيد ـ حتى من دون عدوان عسكري مباشر ـ من النقمة الشعبية لسكان القطاع على «حماس» بسبب تردي الأحوال المعيشية فيه. كما أن سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر والنفور المصري من «حماس»، وما ينسب للحركة من زعزعة للأمن في سيناء واستهداف عناصر من القوات النظامية المصرية، يجعل «حماس» تدفع ثمناً كبيراً لانخراطها في الاصطفاف الإقليمي الإخـواني ـ التركي ـ القطري الذي كـان. أظـهرت «حـماس» قدرتـها على استهداف المدن الإسرائيلية بالصواريخ، وهي نتيجة أهم كثيراً من الخسائر الماديـة والبـشرية التي سيتعرض لها قطاع غزة من عدوان إسرائيلي عليه وفقاً للحسابات الحمساوية. ومن شأن إبرام اتفاق جديد لوقف إطلاق النار بشروط أفضل لـ«حماس»، أن يعطي اعترافاً إقليمياً جديداً للحركة، ويحسّن مراكزها التفاوضية حيال القوى الإقليمية المختلفة.

الحسابات المصرية

تبارت وسائل إعلام مصرية في الشماتة بحركة «حماس» الإخوانية، لأن الحكم المصري الجديد يرى في «حماس» خصماً أيديولوجياً حليفاً لجماعة «الإخوان المسلمين»، وشريكاً لقوى إقليمية تريد منازعة مصر أدوارها في المنطقة. وتتقاسم هذه النظرة شرائح لا يُستهان بها من النخبة المصرية، التي لم يظهر أغلبها تعاطفاً مع «حماس»، مثلما حصل في جولات صراعية سابقة. ومع الوعي المصري بحدود وقدرات الأطراف المتصارعة في غزة، يعلم الحكم الجديد بأن القاهرة ستـكون الضـامن النـهائي لأية هدنة مرتقبة بين «حماس» وإسرائيل؛ على الأقل بحكم الجغرافيا التي تؤبد علاقة قطاع غزة مع مصر. لذلك فُهمت دعوة خالد مشعل للجيش المصري بالتدخل و«إظهار النخوة»، في القاهرة باعتبارها نوعاً من المزايدة المكشوفة التي تستهدف تحسين فرص شريكيه الإقليميين قطر وتركيا في إبرام الوساطة المرتقبة لوقف إطلاق النار. ومع ما تطرحه الجولة الصراعية الراهنة من مخاطر ممكنة، مثل نزوح عدد كبير من سكان قطاع غزة إلى سيناء، إذا فتحت المعابر دائماً، فهناك أيضاً فرص قائمة مثل إثبات القدرة المصرية على لعب دور الضامن لوقف إطلاق النار، ما يرفع أسهم الحكم الجديد دولياً وإقليمياً.

الحسابات الإقليمية

تسعى تركيا لأن تكون جزءاً من اتفاق وقف إطلاق النار المرتقب حتى تضمن حضورها الإقليمي بعد خسارتها الكبيرة في مصر، لكن لا إمكانات فعلية لديها لضمان تنفيذ الاتفاق، إذ لا حدود برية لتركيا مع قطاع غزة. وعلاوة على ذلك، فهناك مخاطر على صورة تركيا في الغرب إن بدت قريبة من «حماس»، وعلى صورتها في العالم الإسلامي إن ظهرت متفاهمة مع إسرائيل. بدورها، تستضيف قطر خالد مشعل، وتريد أن تحجز لنفسها مكاناً على طاولة وقف إطلاق النار، ووسيلتها في ذلك تقديم الأموال لإعادة إعمار القطاع أو لشراء سلع غذائية ومحروقات لسكان القطاع. ولكن مثلها مثل تركيا، تواجه قطر معضلة الجغرافيا، إذ لا بد من إطلالة على جغرافيا القطاع لضمان التنفيذ. هنا يبدو التحالف التركي ـ القطري واضحاً في مزاحمة القاهرة على دور الضامن لوقف إطلاق النار، ومرتهناً له جغرافياً في الوقت نفسه.
بدورها، تريد إيران مواجهة التراجع في نفوذها الإقليمي، بسبب الحراك في سوريا والأوضاع في العراق، عبر الضغط على إسرائيل لتوجيه أنظارها إلى حدودها المباشرة بدلاً من التطلع نحو قصف إيران أو مواجهتها عسكرياً. وإذ أعلنت الصواريخ «فجر ـ 3» و«فجر ـ 5» حضوراً مدوّياً لإيران في معادلة الصراع، إلا أن طهران تتحالف في الواقع مع حركة «الجهاد الإسلامي» لا «حماس»، التي أدارت ظهرها لطهران ودمشق مع صعود «الإخوان المسلمين» إلى سدة الحكم في القاهرة. ومن شأن احتفاظ الفصائل الفلسطينية بترسانتها الصاروخية بعد وقف إطلاق النار ـ وهو أمر شبه مؤكد من الآن ـ أن تحتفظ طهران بورقة ردعية عالية القيمة نسبياً حيال تل أبيب، إذا فكرت الأخيرة بشن ضربات عسكرية على إيران كما لوّحت كثيراً في السنوات الماضية.

الخلاصة

تعي الأطراف المتصارعة ومعها القوى الإقلـيمية حدود الصراع الدائر في غزة، فلا إسرائيل ستنتصر أو تنزع الصواريخ الفلسطينية، ولا «حماس» ستستطيع ـ في ضوء موازين القوى الراهـنة ـ أن تغير من معادلة الصراع مع إسرائـيل جوهـرياً. تتطور المحركات الذاتية لهذه الجولة الصراعية كالتالي: كلما زاد مدى الصواريخ الفلسطينية ووصلت إلى مدن إسرائيلية أبعد رداً على العدوان، ارتفعت المخاوف النفسية الإسرائيلية، ومعها بالتالي قصف إسرائيلي أشد ضراوة ووحشية. وكلما ظهرت تلك الوحشية الإسرائيلية في وسائل الإعلام الدولية، زاد الضغط الدولي على إسرائيل لوقف العدوان والوصول إلى وقف إطلاق نار لن يلبي كل شروطها بالضرورة. بالمختصر، معمودية الدم ليست غريبة على الشعب الفلسطيني، الذي سيقوم مثل طائر الفينيق من الرماد، مثلما قام من كل الكوارث التي حاقت به في العقود السابقة. ما يميز هذه الجولة من الصراع، أن أفقها الصراعي محكوم من الطرفين بسقف لا يتجاوز بأية حال وقف إطلاق النار وشروطه المرتقبة بسبب اختلال التوازن العربي ـ الإسرائيلي. بدوره، سيكرّس اتفاق وقف إطلاق النار الذي تستهدفه الأطراف المتصارعة ـ كل لحساباته ومصالحه ـ توازنات إقليمية جديدة، وهي النتيجة الجيو ـ السياسية الأبرز للعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2165289

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165289 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010