السبت 5 تموز (يوليو) 2014

تداعيات الهبة الشعبية في فلسطين: المشروع الصهيوني من الارتباك إلى الأفول

السبت 5 تموز (يوليو) 2014 par معن بشور

من يتابع الهّبة الشعبية الفلسطينية المنطلقة من حي شعفاط في القدس المحتلة، بمقدماتها وتداعياتها، يدرك ان المأزق الصهيوني في تزايد متواصل لا سيّما فيما يتعلق بخياراته الإستراتيجية في مواجهة الحقوق الفلسطينية والعربية، فهو غير قادر بحكم تكوينه العقائدي والاجتماعي عن انجاز تسوية تاريخية يقدم فيها تنازلات كبيرة من جهة، وهو عاجز بحكم أزمته البنيوية المتصاعدة، على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، عن شّن حرب على قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها.
فبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في مثل هذه الأيام عام 1982، وهي كانت اخر الانتصارات الاسرائيلية في الصراع مع الامة العربية، واجهت تل ابيب معادلة بالغة الخطورة وهي التناقض المتزايد بين تنامي قدراتها التدميرية وحراكها التكتيكي، وبين تناقص متصاعد لقدراتها الاستراتيجية في خلق معادلات سياسية جديدة تمكنها من تغيير موازين القوى الميدانية ، ولقد كانت حرب تموز العدوانية على لبنان عام 2006 والحروب المتلاحقة على غزة، الكاشف الأوضح لهذه المعادلة وذلك التناقض.
ومن هنا نفهم سرّ الحروب المباشرة وغير المباشرة على المقاومة وداعميها من قبل تل ابيب وحلفائها في العالم والمنطقة ، الذين يدركون انه مع كل يوم يمر على صمود المقاومة فهي تزداد قوة ومناعة، وتزداد فرصها في ارباك الكيان الصهيوني والتعجيل في افوله .
فمؤسسو هذا الكيان وحلفاؤهم يدركون ان قوة المشروع الصهيوني منذ انطلاقته قبل قرن ونيف قامت على ركائز خمس.
الركيزة الاولى : أمن الكيان الصهيوني داخلياً وخارجياً.
الركيزة الثانية : عقيدة تلمودية عنصرية لا تقوم إلا على العدوان والتوسع الاستيطاني.
الركيزة الثالثة : هجرة يهودية من الخارج، وخصوصاً من الغرب تشّكل اضافة كمية ونوعية لهذا الكيان.
الركيزة الرابعة : دعم دولي يتراوح بين تعاطف شعبي مع دولة صغيرة مهددة من جيرانها، وبين شعور بالذنب يتم تغذيته بسبب موجات الاضطهاد الاوروبي لليهود من جهة، وبين مصالح استراتيجية استعمارية ترى في الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة للمركز الاستعماري في الغرب من جهة ثانية.
الركيزة الخامسة: هي حال التردي والتشظي العربي الذي تتعاون عوامل داخلية وخارجية على ادامته، بل وتغذيته باستمرار.
ولقد بدأ اركان هذا الكيان وداعموهم يدركون في العقود الأربعة الاخيرة ان اربعة ركائز قد بدأت تهتز بفعل عوامل عدة يتقدمها طبعا صمود الشعب الفلسطيني وتجذر روح المقاومة وتعمقها في الأمة.
فالعقيدة التوسعية وجدت نفسها مضطرة للانكفاء جزئياً من اراض اعتبرتها جزءاً من اسرائيل الكبرى سواء في سيناء أو بعض الجولان ، أو جنوب لبنان، وصولاً إلى غزة نفسها التي هي جزء من فلسطين التاريخية التي يعتبرها الصهاينة منطلقاً لمشروعهم العقائدي الكبير..
وأما الهجرة اليهودية إلى الكيان، فكل المؤشرات تشير إلى تناقص ملحوظ في نسبتها، والى تزايد متنامي في نسبة الهجرة المضادة، مع افصاح نسب عالية من الشباب عن رغبتهم بالهجرة، بالاضافة إلى ما بدأت تثيره مشاريع استدرار “الهجرة بأي ثمن” من مشاكل داخل النسيج الاجتماعي الصهيوني نفسه، وما تحركات السود ومسيراتهم قبل اشهر الا شهادة على تمييز عنصري يعاني منه من أعتبر الصهاينة يوماً هجرتهم (أي الفالاشا) انتصارا كبيراً لمشروعهم ، والامر نفسه ينطبق على التمييز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين.
حتى “اليهود السوفيات” الذين هاجروا باعداد كبيرة إلى الكيان الصهيوني في ثمانينات القرن الماضي فقد تبين ان اكثرهم ليس يهودياً ، وانما استخدم الهجرة كجواز عبور إلى الولايات المتحدة التي لا تشترط سمة دخول لرعايا الكيان الصهيوني.
الركيزة الثالثة أي الركيزة الامنية، فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثانية، فكلما ازداد الشعور بالامان لدى الاسرائيليين ازدادت موجات الهجرة من الخارج إلى الداخل، كما انه كلما ازداد عدد المهاجرين إلى الداخل ازدادت قوة الكيان وزاد احساس مواطنيه بالامان.
هذه الركيزة الامنية بدأت تتخلخل على معظم الجبهات، فالجبهة الشمالية تنذر بخطر داهم لا يخفي الصهاينة قلقهم من تزايد قوته وهو خطر المقاومة اللبنانية، والجبهة الجنوبية أيضاً باتت مصدر خطر جديد بعد ان باتت صواريخ المقاومة الفلسطينية تطال القدس الغربية وتل ابيب، وبعد ان باتت الانفاق من داخل غزة إلى داخل الكيان الشغل الشاغل لاجهزة الامن الصهيونية. اما جبهتا سيناء والجولان فالصهاينة يدركون انهما مفتوحتان على كل الاحتمالات .
في الامن الداخلي للكيان، نُذُر الانتفاضة الثالثة تتجمع في السماء، والمواجهات يومية، والمبادرات الفردية باستهداف جنود أو مستعمرين صهاينة تتزايد في كل ارجاء الضفة الغربية، وصمود المرابطين في المسجد الاقصى يربك محاولات تهويده، ووقفة الفلسطينيين المسيحيين، على قلة من بقي منهم، ضد التجنيد وببع الاوقاف الارثوذكسية ، تشي بمقاومة شعبية عابرة للطوائف بل موحدة له. ومسيرات كسر الجدار الاسبوعية، وانتفاضات الاسرى المتتالية تؤكد تعدد الجبهات السياسية والشعبية المفتوحة على الكيان.
وأياً كان خاطفو المستعمرين (المستوطنين) الثلاثة وقاتلوهم قبل اسابيع، فهذه العملية زعزعت الامن الصهيوني، واظهرت ان كل مستوطن بات هدفاً، تماماً مثلما اظهرت صواريخ المقاومة ان كل مستوطنة باتت هدفاً.
في ظل هذا كله لم يعد المسؤولون الصهاينة قادرين على اشاعة الشعور بالامن والثقة بالكيان واجهزته، وبالتالي بدأوا يخسرون الركيزة الثالثة التي يقوم عليها مشروعهم.
اما الركيزة الرابعة وهي الدعم الدولي ، فما من مراقب متجرد إلاّ ويدرك ان الاحساس بالعبء الاسرائيلي على المصالح الاستراتيجية الامريكية والغربية بدأ يتزايد لدى نخب عديدة في الادارة الامريكية والحكومات الاوروبية، وهو ما افصح عنه بكل وضوح، ولاكثر من مرة جنرالات البنتاغون الامريكي في شهاداتهم امام اللجان المتخصصة بالامن والدفاع والسياسة الخارجية في الكونغرس.
يبقى التعاطف على الصعيد الشعبي العالمي، فقد بتنا نرى الحركة العالمية المطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة امام المحاكم الدولية تتعاظم، والدعوات لمقاطعة اقتصادية واكاديمية واعلامية للكيان الصهيوني تتنامى، والاصوات المنددة بالتمييز العنصري الصهيوني (الابارتايد) ترتفع مع ارتفاع عدد التشكيلات المناهضة له في الجامعات الامريكية والاوربية وبسرعة توازي تلك التي نمت في الثلث الاخير من القرن الفائت لمناهضة (الابارتايد) في جنوب افريقيا ودعت لاحكام المقاطعة على نظامها العنصري.
هذا الاحساس بالعزلة المتزايدة للكيان الصهيوني على الصعيد الشعبي العالمي، والذي عبّر عن نفسه في اكثر من مناسبة (كما في تلويح وزير خارجية امريكا جون كيري بامكان لجوء العالم إلى مقاطعة تل ابيب في معرض التحذير من تعنت نتنياهو أبان المفاوضات مع السلطة الفلسطينية) هو الذي جعل مسؤولين صهاينة كباراً يحذرون قبل سنوات من مخاطر ازدياد نفوذ الحركة العالمية الساعية لعزل الكيان الصهيوني ، وعن توجيه اصابع الاتهام إلى بعض رموز الحركة العربية والعالمية ودورها في هذه الحركة، والى دور سوريا كحاضن للعديد من الفعاليات العربية والدولية ، لا سيّما حملات كسر الحصار على غزة بالاضافة إلى دورها كداعم للمقاومة اللبنانية والفلسطينية والعربية دون ان ننسى بالطبع تصويت 138 دولة في الامم المتحدة على اعتبار دولة فلسطين عضو مراقب، وهو ما ننتظر اليوم ترجمة مفاعيله القانونية والسياسية ضد جرائم الصهاينة.
تبقى الركيزة الخامسة، وهي التي يستثمر فيها الصهاينة اليوم، ومعهم كل حلفائهم، للتعويض عما اصاب الركائز الاربع من تصدع ينذر بتطورات خطيرة على مستقبل الكيان الصهيوني. هي الضعف العربي بكل ما يشهده الواقع العربي من تشرذم وتمزق وانقسام واحتراب واقتتال وتحريض طائفي ومذهبي، وكل ما يتصل به من تواطوء رسمي ومشاركة بعض الانظمة في مشاريع وخطط تدعم استمرار الكيان وتفوقه، بما فيها خططه خلق دويلات عرقية وطائفية ومذهبية تبرر وجوده “كدولة يهودية” وتسمح له بالتفوق الكاسح على هذه الدويلات التي ستبقى غارقة في صراعها مع بعضها البعض، وفي صراعات على النفوذ داخل كل منها.
ان مصدر القوة الاساسي اليوم للعدو الصهيوني ليس ترسانته، حتى النووية منها، ولا الدعم الامريكي غير المحدود، ولا التماسك الداخلي المهدد ، ولا السطوة الامنية المتلاشية يوماً بعد يوم، بل هو حال التردي والتشظي الذي يسود امتنا العربية.
لكن هذا الضعف والهوان والتواطؤ لن يؤثر في مسار الافول الصهيوني الذي بات اليوم مرتبكاً بشدة امام ما يراه امامه من تطورات ومتغيرات في المنطقة، يفرح لبعضها لحين، ثم يبدأ حذره وقلقه وخوفه بالاتساع.
فما تمر به الأمة العربية يبقى في النهاية مخاض مرّت به كل الامم، وآلام المخاض في النهاية تحمل في طياتها آمال ولادة يتحدد موعد حصولها بحسب وجود القابلة (الادوات والاليات) القادرة على التوليد.
ومن جهة أخرى، فلقد بدأت شعوب المنطقة تتحمل مسؤوليتها في اقطارها لوحدها، وتخوض معاركها دون الاعتماد على حكومة هنا وحكومات هناك من منظومة العمل الرسمي العربي، والكل يذكر كيف نجح لبنان المقاوم بتحرير أرضه دون قيد أو شرط ودون ان يكلف النظام الرسمي العربي نفسه عقد اجتماع طارئ لبحث مسلسل الاعتداءات الصهيونية على لبنان، بما فيها غزوه واحتلال ثلث أراضيه عام 1982.
الان، في فلسطين يكرر المقاومون البواسل تجربة المقاومة اللبنانية، ويخترقون الحصارين ، حصار الاشقاء وحصار الاعداء معاً، ويعيدون تأكيدهم على قوة جبهة المقاومة والممانعة في الأمة والاقليم، مدركين ان كل ما تحقق للمقاومة من انتصارات وما لحق بالعدو من هزائم، انما كان ناجماً عن وحدة تلك الجبهة وتفاهمها مع حلفائها في العالم ، بل مدركين أيضاً ان الهدف الرئيسي من وراء “الفوضى الدموية” التي تعّم في دول المنطقة، خصوصاً المحورية منها في الصراع مع العدو، هو تشتيت هذه الجبهة وتفتيت وحدتها وكسر حلقاتها وتدمير دولها المدعوة هي الاخرى إلى تحصين اوضاعها الداخلية عبر المصالحة والمراجعة والمشاركة ودائماً عبر المقاومة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2165279

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165279 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010