الثلاثاء 1 تموز (يوليو) 2014

فلسطين في سوسيولوجيا «الرّبيع العربي»

الثلاثاء 1 تموز (يوليو) 2014 par جعفر محمد حسين

الذي يحاول أن يأخذ مسافةً عن المشهد العامّ لعالمنا العربي والإسلامي على أثر ما سمّي بالثورات العربيّة أو الربيع العربي، لا يحتاج إلى جهدٍ لكي يرى أنّ ثمّة وقائع غير مباشرة تُصنع في المشهد الخلفي لمسرح العمليّات الجارية على الأرض.

إنّه مشهد تحويل الفلسطيني بعنوانه إلى أزمة للدول العربيّة والإسلاميّة ومجتمعاتها، وأهمّها دول الطَّوْق التي تحاصر جغرافيًّا الكيان الصّهيوني الغاصب، وأوسع دائرةً منها الدول التي يُمكن أن تكون جزءًا من جيش تحرير فلسطين في حال توافر الظروف الموضوعيّة لذلك.

يهمّنا هنا أن نشير إلى ثلاثة أمور نعتبرها أساسيّة في هذا المجال:

أوّلاً: التّأزيم الشّعبي

لو مررنا سريعًا على المشهد المأزوم منذ سنوات لوجدنا إضافةً إلى الأزمة الكامنة في الأردن، بين ما هو أردني وما هو فلسطيني، مرورًا بطرح فكرة الوطن البديل الذي يؤسّس على نحو طبيعيّ لتنافُر داخليّ – ما أفرزته الأزمة السوريّة، والذي شهدته بعض المخيّمات الفلسطينية التي أقحمت في أتون المواجهة المسلّحة للحكومة السوريّة الأمر الذي أدّى إلى تعقيد النفوس ممّا هو فلسطيني يكفينا في ذلك فحسب أن يُقال إنّه خائنٌ لكرم الضيافة، أو إنّ أولويّاته مقلوبة تجاه قضيّته الكبرى، أو غير ذلك.

أمّا في مصر فقد تحوّل ما روّج له الإعلام من دخول الفلسطينيّين، تحديدًا حركة حماس المنخرطة في إطار تنظيم «الإخوان» العالمي ، في دعم حكم «الإخوان» في مصر، إلى النحو الذي صوّرهم في موقع المواجهة للشعب وللثورة، بل إلى حالة هجومٍ شديد كاد يكون عنصريًّا في بعض الخطاب الإعلامي أو السياسي، وبالتالي لحقهم أكثر ممّا لحق إخوانهم في سورية من تأزيم في المشاعر الشعبيّة حيالهم.

أمّا العراق، وإن كان أبعد جغرافيًّا، إلاّ أنّه يمثّل خزّانًا مهمًّا في أيّ معركة مقبلة تجاه العدوّ الصّهيوني، ومع ذلك، أصبح في ذهن كثير من العراقيّين الربط بين الفلسطيني والتفجيرات التي كانت تحصد أرواح الأبرياء في المساجد والحسينيّات والأسواق وما إلى ذلك… إنّه تأزيم بلغة الحديد والنار والدم، وهو الأسرع والأثبت في النفوس بطبيعة الحال.

نصلُ إلى لبنان الذي شهد حوادث أزّمت صورة الفلسطيني من خلال حوادث مخيّم نهر البارد سابقًا، وكذلك في ما يُشاع عن اضطلاع بعض المخيّمات الفلسطينيّة بأدوار لها علاقة بإيواء مرتكبين، أو بتقديم دعم للتفجيريّين، وما إلى ذلك. وليس يخفى على أحدٍ أنّ الخوف والترقّب أصبحا سيّدي الموقف في كلّ منطقة تحتضن مخيّمًا يؤوي المهجّرين من أرضهم من الفلسطينيّين.

لا ننسى هنا الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي إلى وقتٍ قريبٍ فعل فعله في داخل فلسطين، على نحو شكّل أرضيّة لحالة العداوة والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد المفترض أن يكون متّحدًا في وجه عدوّ يريد أن يقضي على ما تبقّى من إنسانه، ويحتلّ الباقي من أراضيه، ويصادر حقوقه ومستقبله.

ثانيًا: التأزيم على مستوى حركات المقاومة

لا يخفى على أحدٍ أنّ من إفرازات ما سمّي بـ»الربيع العربي» ما أوجد حالة تنافر في الموقف من الأزمة السوريّة بين المقاومة في لبنان التي حقّقت انتصارين مدوّيين على العدوّ الصهيوني في لبنان في عامي 2000 و2006 والمقاومة في فلسطين التي قادت الانتفاضات والعمليّات الجهاديّة المتنوّعة وحرّرت غزّة، وحقّقت أخيرًا نصرًا بعنوان الصمود فيها في أواخر العام 2008 ولم يكن ذلك من دون شكٍّ تنافرًا مذهبيًّا، إنّما تمّ على خلفيّة قراءة الحوادث المتسارعة.

هذا التأزيم انعكس على طبيعة المحاور التي توزّعت المقاومتين: فهناك المحور الذي تقوده بعض الدول العربيّة وتاريخُها التطبيع مع كيان العدوّ، وسياستها قائمة على الضغط على الفلسطينيّين لتقديم التنازلات تلو التنازلات، متماشية بذلك مع الوقائع التي كان يخلقها الاحتلال الصهيوني على الأرض وهناك المحور الذي تقف في مقدّمه إيران وتنخرط فيه سورية وبعض الدول الأخرى، ويقوم تاريخه على دعم حركات المقاومة للاحتلال الصهيوني بالمال والسلاح، وتخريب المشاريع الاستكباريّة الداعمة لهذا الكيان.

من الطبيعي أنّ سياستي المحورين المذكورين لا تلتقيان في ما يخصّ الموقف من العدوّ وتحرير فلسطين ومشاريع الاستكبار العالمي حيال المنطقة، فكان حتمًا أنّ الاقتراب من أحد المحورين يعني الابتعاد عن الآخر. وعندما تكون المسألة مرتبطة بمقاومة العدوّ الصهيوني، فإنّ نتيجة الاقتراب من المحور الأوّل هي الاقتراب من طبيعة السياسة التي تتحكّم في مواقفه حيال مسألة المقاومة، وليست حرب تمّوز 2006 ببعيدة!

لا نستطيع بالطبع أن نغفل مسألة مهمّة هي أنّ مخطّطاتٍ كانت تستهدف ضرب وحدة فصائل المقاومة الفلسطينيّة نفسها بل صفوف الفصيل الواحد نفسه، بين ما هو الداخل وما هو الخارج.

لا يسعنا الاعتقاد بالتأكيد سوى أن الجميع مخلصون تجاه القضيّة، وهم الذين خبروا معنى «إسرائيل» في عدوانيّتها وتنكّرها لكلّ حقّ فلسطيني وعربي ومسلم، لكنّ التعقيدات التي ترافقت مع الحوادث المتسارعة التي كانت عصيّة على ضبط أيّ قوّة في المنطقة، وأهمّها ما عُمل عليه من إذكاءٍ للشعور المذهبي الذي حوّل المقاومة الإسلاميّة الفلسطينية في أذهان الشعوب – إلى مقاومة سنّية بالمعنى العصبي للمسألة، والمقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة في أذهان الشعوب إلى مقاومة شيعية بالمعنى العصبي للمسألة، هيّأت الأرضيّة الثقافيّة لاستعادة جميع أزمات التاريخ التي تتنكّر بطبيعتها لمختلف إنجازات الحاضر، فكان أن أمكن عبر خلق وقائع أخرى مأزومة تحويل العدوّ إلى صديق، والصديق إلى عدوّ شيطان، في الذهنيّة الشعبيّة العامّة التي ضغطت على كثير من القيادات، حتّى العقلاء منهم!

ثالثًا: اتّساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي

الثورة في عالم تقنيات التواصل هائلة وتأثيراتها في ذهنيّة الشعوب وطبيعة الظواهر التي أفرزتها تحتاج إلى دراسات وأبحاث معمّقة لسنا هنا بصددها، لكن يكفينا أن نذكر أنّه أصبح الفرد العربيّ والمسلم على الهواء الطلق، وعلى نحو غير قابل للانضباط بل نقول إنّ الفرد نفسه توزّع على لحظات اليوم، ليُصبح الانفعال في حجم الثانية الواحدة كفيلاً بتحوّله إلى مادّة إعلاميّة عامّة، بل عالميّة!

إذن، أصبح في المستطاع ببساطة فائقة رفع وتيرة أيّ حالات انفعال نفسيّ لدى الأفراد، أو إيجاد حالات تنافر اجتماعيّ لدى الجماعات، أو استعادة للمشاعر المأزومة من أعماق الكتب الصفراء التي عفا عليها الزمن، وطوت تجارب حاضرة كثيرًا من مضامينها السلبيّة، عبر خطباء السوء ووعّاظ السلاطين، في ظلّ تغييب للعقل والحكمة اللذين يتطلّبان بطبيعتهما – بيئة باردة لا حارّة .

بناء على ما تقدّم…

ما تقدّم قد يمكّننا من أن نخلص إلى أنّ الخريطة الشعوريّة لدى شعوب المنطقة يُراد لها أن تتحوّل إلى طبيعة «كارهة» للشعب الفلسطيني ولقضيّته، كما أنّ إشغال إنساننا العربيّ والمسلم بخاصِّهِ الجغرافيّ، في مسارٍ يُراد له أن يخلق المزيد من الأزمات الميدانية التي تقودها حركات الإفساد وإهلاك «الحرث والنسل»، التي تحمل لواء الإسلام والخلافة ! ، سوف يحمله على الانكفاء عن أيّ قضيّة عامّة، ولا سيّما أنّه يرى أنّ صاحب القضيّة نفسه قد «تآمر» عليه، وربّما فجّر نفسه في أولاده أو أقربائه وأبناء وطنه.

لا نغفل هنا، نزوع النفس الإنسانيّة إلى التعميم والاختزال، حيث يتمّ تعميم أيّ فعل سلبيّ يقوم به فردٌ على الجماعة كلّها، وأيّ ظاهرة هي بطبيعتها معقّدة من الناحية السوسيولوجيّة يجدها لدى شعبٍ ما، يختزل بها كلّ المجتمع. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى دور الإعلام في خلق صور نمطيّة، عبر التسميات التي يطلقها بشكل ممنهج ومدروس فتكرار الربط بين مصطلحات «الفلسطيني» و«التفجير» و«التكفير» و«التطرّف»، وغير ذلك ممّا شهدناه في أكثر من وسيلة عربيّة، يعمل على خلق صورة نمطيّة للفلسطيني، تقضي على التمايزات كلّها، وتختصر الشعب كلّه في سلوك مجموعة من المجرمين لا يخلو منهم أيّ شعب أو جماعة قد تخطئ القراءة في لحظة تعقيد في المواقف، مما ليس بعيداً تحقُّقُه في أيّ جماعة أخرى.

على هذا الأساس، من غير البعيد بل إن طبيعة التجارب تؤكّد ذلك، أنّ المستهدف الأوّل في هذا الحراك الذي جرى في المنطقة، سابقه ولاحقه، هو قضيّة فلسطين. هذا ما أكّدته التجارب في لبنان، إذ كانت الحرب اللبنانية الداخلية 1975-1989 محرقةً لقضيّة فلسطين بكلّ معنى الكلمة، وكان في الإمكان أن تؤسّس لتحوّلات دراماتيكيّة لمصلحة العدوّ يتمّ فيها الانتهاء تمامًا من القضيّة، في ظلّ واقع العجز العربي، لولا أن منَّ الله على الأمّة بانطلاق مقاومةٍ إسلاميّة، أكملت طريق المقاومة الفلسطينيّة على خطّ التحرير، في حين كانت المقاومة الفلسطينيّة تغادر المشهد اللبناني إلى بلدانٍ لا تشكّل احتكاكًا جغرافيًّا مع فلسطين.

من الطبيعي هنا ألاّ نستبعد عن المشهد برمّته، الأخطاء التي قد ينزلق إليها بعض الفلسطينيّين أنفسهم، فيسيئون إلى القضيّة وإلى أنفسهم، ولا سيّما في ظلّ قراءات ناقصة أو مجتزأة للمشهد، أو عبر تعقيد المشهد برمّته، بما يسرق عنوان القضيّة نحو عناوين جزئيّة وهامشيّة قياسًا بها.

إلى هنا، نعتقد أنّ من المهمّ العمل على صُعُد عدّة:

الأوّل: إعادة قراءة دقيقة ومتأنّية للعوامل التي لعبت دورًا في تعقيد المشهد، وبالتالي دفع الأمور في اتجاه التأزيم، وهذا يتطلّب دراسات ميدانيّة تنزل إلى الأرض، وجلسات تفكّرٍ تُستعاد فيها التجارب الماضية مع جميع اللاعبين الإقليميّين والدوليّين في المنطقة، وحوارات هادئة وصريحة لا تستهدف التخوين بقدر ما تتطلّب توضيح الرؤى والمنطلقات، بما يؤسّس لمواقف موحّدة أو متفهّمة على الأقلّ لا تجعل قضيّة فلسطين في مهبّ سوء إدارة الاختلاف في لحظة تاريخيّة شديدة الحساسيّة. ونشدّد هنا على فكرة «العوامل» المتعدّدة إذ نعتقد أنّ من السذاجة تبسيط أيّ حدث أو ظاهرة مرتبطة بالفلسطينيّين أو بالقضيّة عبر ردّها إلى عامل واحدٍ.

الثاني: الابتعاد المطلق عن أيّ وصف مذهبيّ لأيّ مقاومة فالعدوّ المشترك، وهو الكيان الصهيوني الغاصب، غير معنيّ بالتمايزات لأنّ لدى هذا العدوّ مشكلة مع تحرير بيت المقدس، سواء قاده عليّ بن أبي طالب والحسينُ بن عليّ، أو قاده عمرُ بن الخطّاب وصلاح الدين الأيّوبيّ وأكثر ما نرى الخطر في هذا الأمر هو استعادة مصطلحات من قبيل «رافضيّ» لوصف المقاومة الإسلاميّة في لبنان، أو الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ومن قبيل «ناصبي» لوصف المقاومة الإسلاميّة في فلسطين لأنّ تحميل الحاضر بعد الإنجازات كافة ذلك الركام التاريخي كله، يمثّل حالة استقالة جماعيّة من الحاضر لمصلحة الماضي وأزماته.

الثالث: إنّ التوعية السياسيّة إلى ما يحصل، لا ينبغي أن تقتصر على القيادات في أيّ خلاصات تتوصّل إليها من دراسة الواقع، بل لا بدَّ من أن تتحوَّل إلى ثقافة شعبيَّة عامَّة، وإلى حركة إعلاميَّة واضحة ومن شأن ذلك أن يخفِّف من حدّة المواقف على مستوى الأطر العليا والقواعد الجماهيريّة، ويمنع المصطادين في الماء العكر من التأثير في مسارات الحوادث، عبر الضغط على القيادات من خلال القواعد الشعبيّة. ولعلّ من المهمّ هنا تأكيد ضرورة التنظير مجدّدًا لقضيّة فلسطين، على ضوء الأزمات المستجدّة في الذهنيّة العامّة للأمّة، التي أوجدت أسئلة وإشكالات لا بدّ من معالجتها على أيّ حال.

الرابع: الترويج لثقافة لا تقوم على التعميم والاختزال، عبر التدقيق في المصطلحات المستخدمة في اللغة الإعلامية والسياسية في التعبير عن الحوادث، أيًّا تكن، إضافةً إلى إظهار الخصوصيّات الإنسانيّة للشعب الفلسطيني الأبيّ، وأوجه الإبداع المتميّز في المجالات كافّة.

الخامس: دراسة معمّقة لكيفيّة الجمع بين متطلّبات حقّ العودة، وتحسين الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة للفلسطينيين في المخيّمات فلا شكّ في أنّ لتأزيم الحياة داخل المخيّمات آثارًا سلبيّة على المستويين النفسي والاجتماعي، ما يهيّئ الأرض لكثير من المشاكل التي قد تتحوّل إلى ظواهر عصيّة على الضبط.

أخيرًا: إنّ نقطة الارتكاز في مشروع التحرّر والنهوض لأمّتنا، والمشروع التحريري لفلسطين، هو الشعب الفلسطيني نفسه، وإنّ أي جهدٍ أو سياسة أو محورٍ لن تكون لديه القوّة على التقدّم خطوةً في اتجاه فلسطين واستعادة الحقوق والأرض، إذا ضرب الاحتضان الشعبي الشعوري لفلسطين وشعبها الأبيّ والصامد صمود الجبّارين في أرض الرسالات، ومهبط الأنبياء، أو إذا أقحم الفلسطينيون في مشاريع جانبيّة لا تستهدف أوّلاً وأخيرًا شيئًا سواهم وسوى فلسطين الماضي والحاضر والمستقبل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2177951

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2177951 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40